مقالات رأي

لماذا لم أذهب إلى دبي!

عندما وصلتني دعوة من ديفيد ويلر للمشاركة في حدث إطلاق الفنار، شعرت بالسعادة. إذ كنت أعتقد أن العالم العربي بحاجة ماسة للنظر ملياً في وضع مؤسساته الخاصة بالتعليم العالي. كنت آمل أن الحدث الافتتاحي الخاص بـ”الفنار” سيكون أيضاً فرصة جيدة للالتقاء بزملاء أكاديميين والتباحث معهم في الوضع السيء للجامعات العربية.

 قمت بإعداد عرض تقديمي خاص للافتتاح حول ما أعتقد أنه يشكل العامل الأكثر أهمية وتهديداً للتعليم العالي في المنطقة العربية ألا وهو الغياب شبه الكامل لمفهوم التعليم الليبرالي.

 أقر عرضي التقديمي بمعاناة العديد من الجامعات في جميع أنحاء العالم العربي من نقص التمويل فضلا عن اكتظاظها بالطلاب. كما تعاني الجامعات من القبضة الشديدة للأمن، حيث يتدخل الحرس الجامعي في الشؤون الأكاديمية، مع انتشار الرقابة على  الجامعات، وعدم تمكن الهيئة التدريسية والطلاب من متابعة مساعيهم الأكاديمية بحرية ضمن بيئة حرة وصحية. وأدرك أيضاً مشكلة التوزيع غير العادل للموارد، إذ يتلقى عدد قليل من مؤسسات التعليم العالي تبرعات مالية خيالية في حين تعاني جامعات على مرمى حجر، هي أكثر عراقة ومناهجها بنفس الجدية، من موارد ضئيلة للغاية.

 في تقديمي، كنت سأبين بأنه وعلى الرغم من هذه الحقائق الجدية التي تصبغ التعليم العالي في العالم العربي، هنالك نقص في الفهم الصحيح لطبيعة وقيمة التعليم الليبرالي وهو ما يشكل الخطر الأكبر. أُنشئ معظم هذه المؤسسات بعقلية القرن التاسع عشر حول مفهوم الشهادة الجامعية. وكنتيجة لهذا، ثمة هاجس بالتخصص مع اهتمام قليل جداً بكيفية تدريب الطلاب في مختلف الاختصاصات، كيفية توسيع – بدلا من تعميق – معارفهم، وكيفية المزاوجة بين معرفتهم والفضول الفكري، والتفكير النقدي، والإبداع، والشجاعة الأخلاقية والمسؤولية.

 كنت ذاهبا إلى القول إنه حتى عندما يتعلق الأمر بإعداد الطلاب لسوق العمل، فإن الجامعات العربية لا تخدم طلابها بشكل جيد لتجاهلها مبادئ تعليم الفنون الليبرالية. أقول دائما لطلابي الذين يرغبون في دراسة الطب والحصول على وظيفة مربحة كطبيب، إن الطبيب الجيد هو ليس فقط العارف بالتركيب البنيوي للجسم، وإنما عليه أيضاً أن يعرف في إدارة المشافي، وتاريخ مهنته، ونفسية مرضاه وكيفية التعامل مع الممرضات. فالتخصص الضيق الذي يركز فقط على معرفة الجسم البشري من دون معرفة السياقات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي يتحرك هذا الجسم ضمنها، لا يؤهل أحداً لأن يكون طبيبا جيدا.

 الأمر نفسه ينطبق على المهندسين المعماريين. فالمهندس المعماري الجيد ليس من يعرف كيفية صب الخرسانة. هو أيضاً يحتاج أن يتعلم عن التخطيط العمراني، والفن، وتاريخ الفن، وتاريخ المدينة التي سوف يبني فيها. هو يحتاج أن يعرف عن البيئة، والأشخاص الذين سيقطنون في هذه المنازل، والحكومة التي سيبني من أجلها المكاتب والأطفال الذين سيشيد من أجلهم المدارس.

 هذا باختصار ما حضرته لعرضي التقديمي الذي كما ذكرت أعلاه كنت أتوق لمناقشة أفكاره مع المشاركين الآخرين والاستماع أيضاً لما لديهم ليتشاركوه مع الجميع.

 إلا أنني، وقبل أقل من 48 ساعة من موعد رحلتي، علمت بقرار دولة الإمارات العربية المتحدة القاضي بمنع دخول كريستيان كوتس أولريخسن  إلى البلاد بعد أن كان من المفترض حضوره لمؤتمر في الجامعة الأميركية في الشارقة للتحدث عن الأوضاع الراهنة في البحرين. عندما تمعنت جيداً في الموضوع، عثرت على بيان لوزارة الخارجية الإماراتية تقول فيه إن “الدكتور كوتس أولريخسن نشر مرارا آراء ضد النظام الملكي في البحرين، وقد ارتأت الإمارات أنه ليس من الحكمة أن تسمح في هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها الحوار الوطني في البحرين بنشر آراء غير بناءة عن الأوضاع في مملكة البحرين من داخل دولة خليجية شقيقة”. وفور معرفتي بهذه التطورات، بتّ غير مرتاح للذهاب إلى حفل الافتتاح في دبي، ومع مرور الوقت، قررت عدم الذهاب. وكان من دواعي سروري عندما أبلغني ديفيد ويلر، رئيس تحرير الفنار، بأنه تم إلغاء الحدث بأكمله.

 استند قراري بعدم الذهاب إلى الإمارات إلى ثلاثة اعتبارات.

 أولاً، كملايين المواطنين المصريين شاركت بقوة في ثورتنا. جنباً إلى جنب مع العديد من زملائي وطلابي وأصدقائي كنا نسير في المظاهرات المطالبة بحرية أكبر في البلاد وقد عرضنا أنفسنا لمخاطر شديدة. لم يكن إذن من المنطقي أن أذهب إلى بلد منع أكاديمياً من الحديث عن الانتهاكات التي يرتكبها النظام البحريني ضد مواطنيه الذين هم، مثلي أنا وأصدقائي، يناضلون للعيش في بلد ينعمون فيه بحرية أكبر.

 ثانياً، وحيث أنني كنت أعتزم الحديث عن الحاجة الماسة للتعليم الليبرالي في الجامعات العربية، شعرت بأنه ليس من الصواب الذهاب لبلد يفرض قيوداً على حرية التعبير في الجامعات ويقلص من الحرية الأكاديمية بطريقة سافرة. فالتعليم الليبرالي ينطوي على، ويتطلب في الواقع، تدريب الطلاب على أن يشاركوا أكثر بالحياة المدنية وأن يكونوا أكثر وعيا سياسيا. وتعتبر حرية التعبير من صميم هذا الوعي والمشاركة. أدرك مدى خطورة حرية التعبير، إذ تعد حرية التعبير خصوصا في أوقات الاضطرابات والثورات أمراً خطيراً، وأنا أعي ذلك تماما. إلا أنه وخلال أوقات الاضطرابات تحديداً فإن الحاجة لحرية التعبير تصبح أكثر إلحاحاً، لأنه فقط من خلال التبادل الحر للأفكار يتمكن المجتمع من فهم المخاطر التي يواجهها بشكل أفضل ومن استنباط وسائل للتعامل معها. قرار دولة الإمارات بمنع الدكتور أولريخسن  من تقديم ورقته لاعتقادها بأن العرض “لن يكون مفيدا […] في هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها الحوار الوطني في البحرين”، يبين سوء فهم الإمارات الفادح لقيم التعليم الليبرالي وحرية التعبير والحرية الأكاديمية. من هنا، اعتقدت أنه لن يكون مفيدأ أبدا إطلاق “الفنار” من دولة الإمارات العربية المتحدة.

 ثالثاً، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، كنت أتابع عن كثب النمو الهائل لفروع أفضل الجامعات الأميركية في الخليج. وحيث أنه يوجد الكثير من النقاط المثيرة للإعجاب حول الجدية التي يتم من خلالها التخطيط لهذه المؤسسات الأكاديمية، وبينما تعد مرافق وموارد هذه المؤسسات الجديدة موضع حسد من العالم، إلا أنني أعتقد بقوة أن الأسس التي تقوم عليها هذه المؤسسات هي معيبة إلى حد كبير. إن الجامعة ليست فقاعة يتم دعوة أفضل أعضاء هيئة التدريس وأفضل الطلاب من جميع أنحاء العالم إليها، متوقعين أن تشارك وتنتج معرفة حديثة ومتطورة. فالجامعة التي لا صلة لها ببيئتها المحيطة ولا تمتلك صلات مع المؤسسات المجاورة للتعليم العالي، ولا تنخرط في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع الذي يحتضنها، لا تستحق لقب “جامعة”. للأسف، أعتقد أن معظم الجامعات الأميركية العاملة في الخليج تعاني من هذه المشاكل المصيرية: إنها مؤسسات مغلقة بإحكام لا تمتلك إلا صلات محدودة وربما معدومة مع المجتمعات التي تتواجد فيها. وآخر حلقة من الرقابة تدحض هذه النظرية. يبدو الأمر كما لو أن حكومة الإمارات تقول “يمكن أن يكون لديك أهم الجامعات وأحدث المختبرات العلمية والمكتبات والمرافق الرياضية، ولكن لا يوجد لديك الحق في مناقشة القضايا السياسية والثقافية الملحة التي يعاني منها المجتمع خارج بوابات الحرم الجامعي”.

 لكل هذه الأسباب، أعتقد أن قرار محرري “الفنار” بعدم إطلاق هذه الدورية الجديدة الواعدة والمتخصصة في التعليم العالي العربي من دبي، كان قرارا صائبا. فإطلاق “الفنار” من الإمارات كان يمكن أن ينظر إليه وكأنه تغاض عن قرار منع الدكتور أولريخسن  من دخول البلاد، وبالتالي على أنه خيانة كبرى للجهود التي يبذلها الملايين من العرب في جميع أنحاء العالم العربي الذين يكافحون من أجل التخلص من الاستبداد. كما كان من الممكن أن ينظر إليه على أنه تغاض عن تدابير الحد من حرية التعبير وتعليق الحرية الأكاديمية، وتغاض عن الاختلالات الخطيرة في البيئة التعليمية المحلية والناجمة عن افتتاح عدد هائل من الجامعات الأجنبية.

*خالد فهمي هو أستاذ ورئيس قسم التاريخ في الجامعة الأميركية في القاهرة. وهو عضو في المجلس الاستشاري لـ”الفنار”.

تعليق واحد

  1. عندي مخطوطة لمقالة عن التعليم اللبرالي عمرها يزيد على 3 سنوات ولم اجد الوقت لنشرها بعد! وقد كتبتها خلال عملي في الأمارات. طيلة البحث الميداني وعملية ملأ الاستمارات فاجأتني مشاهدات كثيرة اهمها هو وجود نزوع هائل لدى الطلاب والطالبات نحو المبادئ الاساسية للتعليم اللبرالي، وهذا ما تظهره الاحصائية التي قمت باعدادها ثم تحليلها باستخدام برنامج SPSS. المشاهدة الثانية كانت هي الغياب الكامل لمفهوم ولفظة التعليم اللبرالي في الخطاب حول التعليم العالي في ذلك البلد الواعد ولو بنحو يتعذر على الرصد المباشر. هذا الغياب كان يتجسد في المشاهدة الثالثة عندما كنت اخوض في الحديث عن الموضوع مع الاساتذة الزملاء الوافدين من الدول العربية الاخرى للعمل لمدد متباينة ولكنها ليست دائمة ابداً. لقد كان هؤلاء يتملصون من الحديث عن هذه الموضوع بوسائل معهودة. بعضهم كان يعتذر بادب عن الحديث في الموضوع وفي هيئته علامات وجلٍ من الخوض بحديث قد يكون ممنوعاً. والبعض الآخر كان يتظاهر بالمعرفة ريثما يتمكن من تغيير الموضوع او كي يعتذر ويقول انها المرة الاولى التي يسمع فيها بهذه اللفظة. وبعضهم كانوا يقولون الحقيقة، انهم جاهلون تماماً بالموضوع. طبعاً كانت هناك قلة قليلة جداً تبدي فضولاً حول الموضوع وكذلك رغبة في معرفة المزيد عنه. كما كانت هناك قلة أقل من ذلك تعرف الكثير عن الموضوع. الطريف، والذي جرى عكس ما كنت افترض انا شخصياً ان اغلب هؤلاء كانوا من الاساتذه المواطنين الاماراتيين انفسهم! المشاهدة الرابعة كانت عندما خضت في البحث المكتبي حول التعليم اللبرالي في التراث العربي حيث تبين لي هناك افكارٌ موازية وشبيهة ولا اقول متطابقة مع هذا المفهوم المحدث والذي اتخذ شكله المعاصر بفعل التطورات الاجتماعية الاقتصادية في اوروبا / وشمال امريكا وكذلك في البلدان التي مرت بخبرات شبيهه كما في اليابان وغيرها. وللحديث بقية عن هذا الموضوع الخطير والشيق في آن ؛)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى