مقالات رأي

جيل سوريا المفقود

نُشرت هذه المقالة لأول مرة في  The Chronicle ويعاد نشرها هنا مترجمة بموجب اتفاق مع  الصحيفة وبموافقة من المؤلف.

على مرمى البصر من الحدود السورية، يمتد مخيم الزعتري للاجئين السوريين كبحر من قماش الخيام البيضاء عبر التلال القاحلة إلى السماء الزرقاء في الصحراء الأردنية.

موطن لحوالي 140 ألف شخص، أصبح من الصعب تسميته بالمخيم، خاصة بعد أن تحول واحدا من أكبر مدن الأردن. معظم اللاجئين هم من قرى وبلدات جنوب سوريا، المكان الذي انطلقت منه الانتفاضة ضد حكم (الرئيس) بشار الأسد الاستبدادي قبل عامين.

في منتصف نيسان/أبريل الماضي، سافرت لزيارة المخيم مع زملاء بهدف لقاء طلاب الجامعات السورية كجزء من مشروع بحثي مشترك من  جامعة كاليفورنيا بديفيس ومبادرة لحقوق الإنسان وصندوق  معهد إنقاذ الباحث التربوي الدولي.

قبل ذهابنا، قال لنا مسؤولون بالامم المتحدة وعمال الإغاثة إنه لا يوجد طلاب جامعيين في المخيم، وأننا لن نجد سوى القرويين الفقراء وغير المتعلمين. كنا حذرين حتى في الذهاب إلى هناك خشية أن يظهر اللاجئون عداء علنيا للزوار الأجانب، خصوصا وأنهم قد تعرضوا لموظفي بعض المنظمات غير الحكومية. في الواقع، بعد يوم من زيارتنا، اندلعت أعمال شغب بين اللاجئين والجنود الأردنيين.

تحت خيمة عملاقة وحول طاولات بيضاء بلاستيكية وفي حوار كامل باللغة العربية، التقينا مع 18 طالبا جامعيا انقطعوا عن الدراسة بسبب الحرب. معظمهم كان من النساء، كما تحدثنا أيضا مع بعض من الشباب.

كان الحوار مهذبا ومكثفا في الغالب تخلله بعض الضحك. علمنا أنهم كانوا طلاباً في جامعة دمشق أو أحد فروعها وجامعة البعث قرب حمص. بعضهم مضى على وجوده في المخيم عدة أشهر، والبعض الآخر وصل حديثا. كانوا يدرسون القانون، التاريخ، علم البيولوجيا، التربية، الهندسة وعلوم الكمبيوتر والصيدلة. كانوا عينة طلاب من أصل عشرات آلاف الطلاب السوريين المنتشرين في المنطقة.

لقد أمضيت الكثير من الوقت في سوريا، دمشق وحلب، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وعدت لزيارتها كل بضعة سنين. هنالك قمت بالأبحاث الخاصة لكتابي الاول: الحداثة في الشرق الأوسط (مطبعة جامعة برينستون، 2006) حول ظهور الطبقة الوسطى السورية. وكان التعليم العالي جزءا من تلك العملية.

عندما تولى والد الرئيس السوري الحالي السلطة، في أوائل سبعينات القرن الماضي،  شرعت البلاد بتوسع طموح للتعليم العالي. وأصبح إرسال أحدهم لأولاده خصوصا الشابات إلى الجامعة عنصرا أساسيا في عملية تنمية البلاد، وأساسيا أيضا لعقد حزب البعث الحاكم الاجتماعي الاستبدادي، والذي بموجبه حصل نوع من الهدوء السياسي سمح بتقديم حياة شبه مريحة للطبقة الوسطى ومنح فرصة للتقدم الاجتماعي.

إن الاعتقاد الخاطئ بعدم وجود طلاب جامعيين في مخيم الزعتري يأتي من طريقة تصور اللاجئين من قبل عمال الإغاثة.

تاريخيا، سواء كانوا من الناجين من الإبادة الجماعية الأرمينية، الفلسطينيين النازحين بسبب قيام دولة إسرائيل، أو العراقيين الفارين من الغزو الأجنبي والحرب الأهلية، لا يبدو اللاجئون في الشرق الأوسط مختلفين، هم كتلة غير واضحة في الوعي الجماعي للعمل الإنساني الدولي.

ويعتبر عدم فهم تنوع اللاجئين والمجتمعات التي ينتمون إليها مشكلة تعيق رفع المعاناة عنهم فورا ومساعدتهم في بدء حياة جديدة في مكان آخر أو للعودة وإعادة بناء مجتمعاتهم. هذا هو الحال بالنسبة للطلاب الجامعيين الطموحين والموهوبين في سوريا والذين يمكن أن يكونوا قوة جديدة ومعتدلة لبناء هذا البلد في مرحلة ما بعد الصراع بالتأكيد.

ذهبت إلى مخيم الزعتري مع ادريان فريكي مستشارة في حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، وخبيرة في مجال حقوق الإنسان وشاركتني كتابة تقرير مبادرة حقوق الإنسان. أردنا أن نعرف تصور الطلاب لأنفسهم في المستقبل، وتوثيق العقبات التي يواجهونها في سعيهم لمواصلة دراساتهم.

تتراوح مشاكلهم بين مشاكل عملية كفقدان الكتب إلى مشاكل أكثر صعوبة كالاختيار بين دفع الإيجار أو رسوم الدراسة. ومع ذلك، فإن الطلاب الذين تحدثنا معهم أعربوا عن رغبة شديدة في استئناف الدراسة، حتى لو كان ذلك يعني ترك عائلاتهم والسفر إلى الخارج.

إحدى طالبات الحقوق قالت لي في المخيم “في منزلنا، نعتبر الدراسة مقدسة”، وكان منزلها في هذه اللحظة هو الخيمة.

قدم حوارنا مع الطلاب لمحة عن الرعب الذي عاشه هؤلاء الشبان الهاربين. أخبرونا عن المظاهرات ونمو الوعي السياسي داخل الحرم الجامعي وما تبعه من حملات عنيفة من قبل رجال مسلحين يرتدون ملابس مدنية، يعرفون باسم الشبيحة، أو “الأشباح”، ويعملون في الخفاء جنبا إلى جنب مع المخابرات والجيش. ذكر الطلاب أن غرف النوم الخاصة بهم قد تم تفتيشها، ومصادرة أجهزة الكمبيوتر، كما تم إلقاء القبض على زملاء لهم في حين أن آخرين اختفوا.

ولكن الخوف من الاضطرار إلى خوض حرب لا يريدون خوضها، وانعدام الأمن، دفع العديد منهم ومن عائلاتهم إلى المنفى.

في المقابل، فر آخرون بسبب نشاطهم السياسي. أحد اللاجئين السوريين كان في مطلع العشرينات من العمر، سنطلق عليه اسم ماجد، كان يدرس في جامعة دمشق عندما انخرط في تنظيم مظاهرات ضد النظام باستخدام فيسبوك وخرائط غوغل.

بعد مداهمة قوات الأمن لمنزل عائلته، حيث تم ضبط كمبيوتره المحمول ومجموعة من كتبه، تم اقتياده إلى محكمة عسكرية بتهمة غريبة وهي “تقويض الشعور القومي في زمن الحرب”.

بعد 25 يوما، أفرج عن ماجد من السجن المركزي في دمشق. وتم تعليق دراسته من قبل لجنة الانضباط في الجامعة بحيث أصبح مؤهلا للالتحاق بالجيش لتأدية خدمة العلم حيث من المحتمل أن يقتل. دفعت عائلته آلاف الدولارات للحصول على تصريح خروج مزور له ورشوة موظف الحدود ليتمكن من الخروج إلى بر الأمان.

من بين القصص التي سمعتها، كانت هذه القصة التي علقت بوضوح في ذهني. المؤرخ بداخلي شعر بتعلق ماجد بكتبه، وبفقدانه لهويته وبالاعتداء على كرامته مع مصادرتها. ولكن الأهم من ذلك، طالب بحقوقه كإنسان بلغة بليغة لا عنفية، وهو ما يزال يدفع ثمنا باهظا.

إن التحدي بالنسبة لنا نحن الذين سنكتب تاريخ سوريا وبصورة أعم تاريخ الربيع العربي يكمن في تذكر أن العديد من السوريين الشجعان اندفعوا لتغيير مجتمعهم بدون أسلحة وأن الطائفية والراديكالية الاسلامية التي تتحكم بالصراع الآن جاءت بعد قمع النظام الوحشي لتلك الحركة ووصول المقاتلين الجهاديين الدمويين وتقاعس الغرب. يتمتع ماجد بالمرونة، وأعتقد أنه سيكون على ما يرام. عائلته التي تعيش خارج سوريا لديها المال لمساعدته على إنهاء دراسته في الأردن.

بعدما غادرنا مخيم الزعتري، تذكرت مرة أخرى الحرب عام 2003، عندما شرعت بالعمل على مشروع بحث مماثل في بغداد. كنت قد وثقت نهب الجامعات وإحراق المكتبات، وعدم الكفاءة والغطرسة المسمومة من الأميركيين الذين أرسلوا لإدارة العراق.

ومع ذلك، فإن الجامعات بقيت تعمل، والطلاب يحضرون إلى مقاعد الدراسة. حتى في أحلك الأيام، بقيت الجامعات العراقية أماكن للأمل.

إلا أن هذا ليس صحيحا بالنسبة لسوريا. ليس هناك من سبب للاعتقاد بأن الحرب التي حصدت أرواح أكثر من 80 ألف شخص وحولت الملايين إلى لاجئين سوف تنتهي قريبا. والمجتمع السوري نفسه ينهار، جنبا إلى جنب معها، مع جامعاته.

عندما جلست في ظل الخيمة العملاقة، كنت أعرف أنني أبحث عبر الطاولة في وجوه جيل سوري مفقود.

*كيث ديفيد واتنبوه، أستاذ مساعد ومدير مبادرة لحقوق الإنسان – جامعة كاليفورنيا بديفيس . كتابه “الخبز من الحجر: منطقة الشرق الأوسط وصنع النزعة الإنسانية الحديثة” قيد الطبع من قبل مطبعة جامعة كاليفورنيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى