مقالات رأي

الفساد الأكاديمي للإعلام

“إذا ضايقك فساد الإعلام في بلادنا أو ضعفه أو تردي مستواه.. فتش دائماً عن كليات الإعلام التي تخرج الإعلاميين في بلادنا”. كان ذلك درساً مبكراً تعلمته من أستاذ الصحافة العربية الأهم والأبرز محمد حسنين هيكل، عندما ذهبت قبل أربعة عشر عاما لإجراء حوار صحفي معه، وفوجئت به يشترط علي قبل إجراء الحوار أن نجلس سويا للتعارف، لكي لا يكون هناك غربة بيننا عند إجراء الحوار، وهو ما عرفت فيما بعد أنه من شروط موافقة الأستاذ على أي حوارات يجريها، لكي يعتذر عن إجراء الحوار إذا لم يرُق له المحاور، أو إذا لمس منه عدائية، فضلاً عن أن المكانة التي وصل إليها هيكل وجعلت الناس يحبون أن يستمعوا إليه كثيراً، لم تأت إلا بفضل أنه يستمع إلى الناس كثيراً.

عندما عرف هيكل في بداية اللقاء أنني تخرجت من كلية الإعلام بجامعة القاهرة قبل ثلاثة أعوام من لقائي به، لمعت عيناه باهتمام وطلب مني أن أحكي له بالتفصيل عما درسته في الكلية وعن مناهجها وأهم أساتذتها، وعندما لمح استغرابي حكى لي تفاصيل عرفت منها أن إهتمامه بكلية الإعلام له جذور أقدم مما تصورت، من بينها أنه بعد أن أصبح وزيراً للإعلام قد طلب من الدكتور عبد الملك عودة أن يحضر له مناهج دراسة الإعلام في الجامعة المصرية، يقول “صُعقت عندما رأيت أن المناهج كانت مصممة على مقاس سكرتير التحرير بالمفهوم القديم، من أيام نجيب كنعان مثلا، مناهج تنتج الجمود لم يكن يدرس فيها حتى كيفية جمع الأخبار بالمفهوم الحديث، صحيح كان هناك دور لابأس به لأساتذة مثل خليل صابات، لكن مقارنتها بمناهج الصحافة في جامعة كولومبيا التي كنت ولاأزال على إتصال بها كانت مخجلة، حاولت أن أقوم بتعديل المناهج لكن جهدي انقطع بخروجي من الوزارة، قل لي كيف هو وضع دراسة الصحافة الآن؟”.

لم أدر كيف أجيبه، هل أكذب وأقول أن الوضع على خير مايرام، أو أبالغ فأقول أنه كارثي، لاأريد أن أعيد كل ماحكيته فلذلك موضع آخر تطيب فيه الإستفاضة، يكفي أن ألخص ماقلته بأن أزمة كلية الإعلام هي جزء من أزمة الجامعة في مصر التي تحولت إلى مكان يبحث فيه غالبية الأساتذة عن الأمان المادي بأي وسيلة حتى لو كانت عبر التذلل للأمن وقمع حرية التفكير وقولبة الطلاب، ويبحث فيه غالبية الطلاب عن شهادة تكون عاملا مساعداً لما لديهم من وسايط ومعارف، وأن وضع دراسة الصحافة هو تماما كوضع الصحافة المصرية، ثمة نقط مضيئة ولكنها تبدو كرقع بيضاء في ثوب أسود مهلهل، تجاوز تقليدية التشبيه ليقول أن ماسمعه زاد من قلقه على مستقبل الصحافة المصرية في السنوات القادمة وفسر له بعض المظاهر التي تحيره في الصحافة المصرية.

لم أكن أعلم وقتها أن وراء تساؤلات الأستاذ هيكل عن أدق تفاصيل دراسة الصحافة في مصر إهتمام يتصاعد في ذهنه بضرورة إيجاد بديل لرفع المستوى المهني للصحفيين الشبان الذين إذا أفلتوا من خواء المناهج وضعف الأساتذة الذين يتم تعيين أغلبيتهم على أساس الكفاءة في الدح والبعد عن المشاكل وخلو ملفاتهم من أي نشاط سياسي أو موقف معارض، فلن يفلتوا من خراب الممارسة الصحفية التي لعلك لاتحتاج إلى تبيان لها، وإذا كان الأستاذ هيكل قد فشل في تحقيق حلمه بتعديل مناهج الإعلام عندما كان في السلطة، فهاهو وقد أصبح سلطة شعبية موازية يترجم حلمه في مؤسسة عظيمة بدأت بأنشطة متميزة لو كتب لها التواصل والتراكم ربما غيرت وجه الصحافة المصرية تماما الذي أظلم على أيدي الكثيرين بينهم بعض تلاميذ الأستاذ هيكل الذين عاثوا في الصحافة الفساد. (لاأسميهم فلعلك تعرفهم).

كان الأستاذ هيكل يتحدث في ذلك الصباح بحماس عن تجربته في الإتصال بالعالم الذي يعتبره أمراً لاغنى للصحفي الشاب عنه لكي يقدم للقارئ خدمة كتلك التي تقدمها صحف الدول المتقدمة لمواطنيها، بينما كنت أثناء حديثه أسأل نفسي الأمارة بالسوء ماذا سيكون تعليقه لو قلت له أنني اقترضت مائة جنيه بالأمس لأشتري “تي شيرت” جديدا أذهب به لمقابلته، بلاش، هل أقول له أن أغلب من أعرفهم من صحفيين يحلمون بحل مشكلة خطوط التليفون في صحفهم للإتصال بالمصادر فضلا عن الإتصال بالعالم، لنفرض أنه لم يتعاطف مع حديثي وواصل كلامه عن تجربة جيله الذي لم تمنعه صعوبات الحياة من الحفر بأظافره في الصخر، أليس عيبا أن يتحول الحديث لسؤاله عن سعر البيضة في تلك الأيام، وكيف كان الكمساري يقول للركاب بكل أدب “تذاكر ياحضرات”، هل أحكي له عن خناقتي مع سائق التاكسي الذي اخترت ركوبه لكي أصل إلى موعد الأستاذ محافظاً على لياقة مظهري،لاداعي لصدمة الرجل الكبير بهذه الكبائر، سأكتفي بالصمت وإدعاء أنني موافق على كلامه فذلك أفضل وأليق.

توقف الأستاذ ليشير إلى رف من الكتب خلف مكتبه مباشرة، عليه الكتب التي كتبها بالإنجليزية والتي يضعها وحدها دون كتبه بالعربية، ” ليتأكد لي دائما أنني لم أضيع وقتي في الحياة” على حد قوله، للحظات كتمت سؤالاً عن ماإذا كان ذلك ظلما لكتبه المؤلفة بالعربية، وفضلت أن أقول له أنني أفكر في أهدائه النسخ التي أمتلكها لكتبه والتي تقلبت على مئات الصحفيين كتب كل منهم مايراه على هوامشها، ليصنع لها رفاً سيكون دليلا أقوى على أنه لم يضيع وقته في الحياة أبدا. لم يستسلم لمقاطعتي وواصل تأكيده على أهمية إتقان اللغات الاجنبية للصحفي الشاب “عندما تتقن اللغات ستكتشف أن كثيرا مما تقرأه بالعربية مؤلفا هو مترجم وترجمة رديئة كمان.. فضلا عن أن الكتب المترجمة لاتستطيع نقل الحضارة والثقافة بشكل جيد”.

قلت لنفسي: هاهي جلسة التعارف تتحول إلى جلسة تقليب للمواجع، على الفور لاحظ الأستاذ مشاعري المتصاعدة تجاه مايقوله فغير الموضوع مباشرة، الآن فهمت لماذا يختار من البداية أن تجلس على كرسي يواجه مكتبه تماماً، معتبراً أن ذلك أكثر حميمية بينما رأيته أمراً يثير الإرتباك، ثم ربطته برغبته الدائمة في الإحاطة بمشاعر جليسه المرتسمة على وجهه.

https://www.bue.edu.eg/

بعد فترة من لقائنا الذي كان له الفضل في إقناعي بترك العمل الصحفي ومطاردة حلمي في أن أصبح كاتب سيناريو   وتلك قصة أخرى   بدأت أتابع أخبار المؤسسة التي أنشأها الأستاذ هيكل لتدريب وتطوير أداء نخبة مختارة من الصحفيين الشباب، وأعلم أن كثيرا ممن شارك في فعاليات المؤسسة استفاد بالفعل، لكن حال صحافتنا لم يتغير إلى الأفضل، ولا زالت تعاني من مشاكل الضعف المهني وإنعدام الكفاءة وقلة المصداقية، لأن المثل المصري (إيش تعمل الماشطة في الوش العكر) لا زال صالحاً للتطبيق برغم التطور المذهل الذي بات عليه خبراء التجميل، لكنك يمكن أن تقوم بتجميل وجه قبيح لبعض الوقت، لكنك لا يمكن أن تقوم أبدا بتجميل واقع قبيح طول الوقت، ولذلك على من أراد أن يقوم بإصلاح واقعنا الصحفي والإعلامي المتدهور، عليه أن يكف عن محاولات التجميل والترقيع، ويلجأ إلى علاج جذر المشكلة الكامن هناك، في كليات الإعلام ومناهجها الضعيفة وطريقة تعليمها الخربة.

* بلالفضلكاتبسيناريووصحفيمصري.

Countries

‫2 تعليقات

  1. طيب فين الضمير يا أستاذ بلال
    العيب فى الشخص والله مش فى الكلية – فكل إنسان ألزمه الله طائره فى عنقه ومسئول عن أفعاله – فالحلال بين والحرام بين فالكل يعرف الصح والغلط مش كل ما حد يعمل الغلط يدور على شماعة

  2. الحقيقه أنه لا يمكن لأية مؤسسة أن ترتقي مهما كانت صغيره او كبيره فوق مستوى القائمين عليها ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى