مقالات رأي

بلال فضل: متمردون تحت الطلب

“يمكن أن تتمرد وتعارض وتشاغب وتتظاهر، ولكن عندما نريد نحن ذلك”. هذه ببساطة الرسالة التي بعثت بها أجهزة الدولة العميقة لمئات الآلاف من الطلاب المصريين من خلال وسائل الإعلام الحكومية والحليفة التي تسمى بوسائل الإعلام الخاصة، في حين أنها في حقيقة الأمر تمثل مصالح عدد من رجال الأعمال الذين لا يرفضون لأجهزة الدولة طلباً لكي لا ترفض لهم بدورها طلباً.

في مثل هذا الوقت قبل عام، وبعد اندلاع الإحتجاجات الثورية على الإعلان الدستوري الإستبدادي الذي أصدره الرئيس الإخواني محمد مرسي، كانت جميع الصحف وبرامج التوك شو تشيد بدور الحركة الطلابية في مقاومة الرغبات الإستبدادية لجماعة الإخوان، وتعتبر مظاهراتها امتداداً للتاريخ الطلابي المشرف في مقاومة الإستبداد، وتحذر أجهزة الأمن من أن تقوم بقمع تظاهراتهم الرائعة، وتقف ضد أي مطالبات إخوانية بإعادة الحرس الجامعي إلى داخل الجامعات المصرية بعد أن كان قد أخرجه منها حكم قضائي تاريخي.

أما اليوم، وبعد أن أصبحت التظاهرات الطلابية هي العثرة الأكبر في سبيل انفراد الأجهزة الأمنية بحكم البلاد، ها أنت تجد نفس الصحف ونفس برامج التوك شو بنفس المذيعين، بل وبنفس الضيوف، وهي تطالب بفصل أي طالب يقوم بالتظاهر لأن الجامعات أماكن للعلم وليست للتظاهر والعمل السياسي، وتعتبر أنه من الضروري والمبرر قيام أجهزة الأمن بضرب مظاهرات الطلاب بالخرطوش والرصاص المطاطي وإلقاء قنابل الغاز بكثافة على الحرم الجامعي، لأن مظاهرات الطلاب الآن تصب في مصلحة جماعة الإخوان التي تم الإطاحة بها من الحكم.

لم يعد غريباً الآن أن يتم إتهامك بأنك إخواني لإسكات صوتك، حتى لو كنت معارضا عتيداً للإخوان خلال حكمهم، بل وقبل حكمهم حينما كانوا حلفاء مخلصين للأجهزة الأمنية، ولذلك لا يلقي أحد بالاً لحقيقة أن كثيراً من المظاهرات الطلابية لم تخرج دعما لمطالب الإخوان بإعادة رئيسهم الذي أطاحت به موجة ثورية شعبية، بل خرجت استنكارا لقيام قوات الأمن بقمع مظاهرات الطلاب، وهو ما تسبب في قتل طالب بكلية هندسة القاهرة اسمه محمد رضا. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام حاولت تصوير عملية القتل على أنها مؤامرة إخوانية، إلا أن مشاعر الطلبة ثارت حزناً على محمد رضا، لأنه لم يكن أصلاً مشتركاً في المظاهرة، بل كان يمشي خارجاً من محاضرة، وهو ما نقل لآلاف الطلبة انطباعاً أن أياً منهم يمكن أن يكون هدفاً للقمع العشوائي، خاصة مع مباركة وزير التعليم العالي الدكتور حسام عيسى لإجراءات الشرطة برغم أنه قادم من صفوف المعارضة الناصرية التي كانت دائماً تبارك مظاهرات الطلاب بلا قيد ولا شرط.

بلال فضل، كاتب سيناريو وصحفي مصري

في جامعة الأزهر كان الوضع أسوأ، لأن قتل الطالب عبد الغني حمودة بعد أن ضربته الشرطة برصاص الخرطوش وهو ملقى على الأرض مصاباً باختناق الغاز لم يحظ أصلاً بأي اهتمام إعلامي، لأن الأضواء تم تسليطها فقط على أحداث الشغب التي قام بها الطلبة في الجامعة التي تشهد نفوذاً للمنتمين إلى جماعة الإخوان والمتعاطفين معها، ولذلك فقد أدى هذا التجاهل الإعلامي إلى مزيد من التصعيد الذي قام به طلبة وطالبات الجامعة للفت الإنتباه إليهم، ولكن دون جدوى.

للأسف، لا تشكو مصر من وفرة في عدد السياسيين الموجودين بها داخل مراكز صنع القرار، لكنها تشكو بشدة من نقص حاد في ممارسة السياسة في ملف شائك مثل ملف العمل الطلابي، مع أن لدينا سياسيين كبار في السن بما فيه الكفاية لكي يتذكروا أنه لم ينجح حاكم مصري مهما بلغت قوته في قمع الحركة الطلابية، لا نتحدث هنا فقط عن رؤساء حكومات حكموا مصر خلال الحقبة الليبرالية مثل محمد محمود واسماعيل صدقي الذين كان صدامهما مع الطلاب كفيلا بمحو كل ما حققوه من إنجازات اقتصادية والإطاحة بهما بعيداً عن كرسي الحكم، بل نتحدث أيضا عن جمال عبد الناصر أكثر الزعماء المصريين شعبية الذي لم يدر كيف يتصرف مع مظاهرات الطلبة التي أعقبت هزيمة 5 يونيو 1967 والتي طالبت بمحاكمة المتسببين الحقيقيين في الهزيمة بدلاً من إلقاء اللوم على صغار القادة، لدرجة أنه فكر أن يضربها بالطيران كما تقول شهادات رسمية موثقة، وبرغم أنه كان يمتلك كل وسائل الإعلام في صفه، ولم يكن هناك منظمات حقوقية دولية تراقبه ولا التزامات دولية تقيد خطواته، إلا أنه انحنى في النهاية أمام غضبة الطلاب وقام بإصدار قرارات جريئة امتصت غضبهم وأنهت تواجدهم في الشارع.

أما اليوم، وفي حين تبدو أجهزة الدولة منتشية بالدعم الشعبي الواسع الذي تحظى به في إطار ما يسمى بالحرب على الإرهاب، فإنها أظهرت تخبطاً وارتباكاً بالغين في مواجهة مظاهرات الطلاب التي لم تتمكن من قمعها بعصا الشرطة الغليظة، ولا بألسنة برامج التوك شو النارية، وحتى عندما راهنت في جامعة القاهرة أكبر الجامعات المصرية على تواطؤ أساتذة الجامعة معها، فوجئت بموقف جرئ من رئيس الجامعة الذي لم يشتهر أبدا بمواقف معارضة سابقة، ومع ذلك فقد أدان هو وهيئة الجامعة بقوة ما قامت به الشرطة، ليأتي بعده موقف أكثر جرأة من عميد كلية الهندسة الذي أعلن استقالته لعجزه عن حماية الطلبة من بطش أجهزة الأمن، وهكذا انكشف عن الحكومة أي غطاء يبرر قمعها لمظاهرات الطلبة، وبدأت تعلو أصوات المطالبة بحلول سياسية للأزمة مع الطلبة، بل ووصل الأمر بعديد من الكتاب الموالين للأجهزة الأمنية إلى أن يلوموا الحكومة الحالية ويتهموها بافتعال أزمات سياسية تصب في مصلحة جماعة الإخوان، بعد أن كانوا حتى وقت قريب يتهمونها بالتقاعس والتراخي في إتخاذ سياسات حديدية تسيطر على الشارع الطلابي.

ما لا يدركه المسئولون عن البلاد أن أي محاولة للسيطرة على الحركة الطلابية لن تنجح إلا إذا انطلقت من إدراك أن كل ما يجري ليس إلا جزءاً من صراع الأجيال الشابة مع الأجيال “العجوزة” عقيمة الخيال، وهو الصراع الذي بدأ انفجاره منذ 25 يناير 2011 بجولاتها المتتالية، وطالما لم يتم إيجاد صيغة شاملة لاستيعاب غضب الأجيال الشابة وتحويله إلى طاقة تخدم البلاد، فإن أي هدوء نسبي ستعقبه هبات متكررة داخل الجامعات وخارجها، ومن لم يصدق ذلك عليه أن يتذكر جيدا شعار الجرافيتي الذي كتبه جيل الشباب على الحوائط ولم تقرأه الأجيال الأقدم جيدا، ذلك الشعار الذي يقول بوضوح “لو مش هتسيبونا نحلم.. مش هنسيبكو تناموا”.

Countries

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى