مقالات رأي

عندما تصبح الجامعة وطناً!

تحدث طالبان من طلاب الجامعة الأميركية في بيروت عن تجربتهما في الجامعة خلال حفل التخرج السنوي الذي أقامته الجامعة مؤخراً. ننشر الخطابين بعد أن تم تحريرهما لضرورات النشر. 

* ياسمين وليد ساكر، المرشحة لنيل درجة الليسانس في كلية الأداب في تخصصين: العلوم السياسية والدراسات الإعلامية. 

قبل عامين، فقدت إحساسي بالانتماء. إذ لم يعد لدي منزل أعود إليه في بلدي التي مزقتها الحرب. أُجبرت أن أكون بعيدة عن عائلتي وأصدقائي وكل ما كان يمنحني هوية. لكن، لم يمر وقت طويل حتى أدركت أنني أنتمي لمكان ما. أنتمي للجامعة التي أمضيت فيها ليالي طويلة أدرس بين أكوام الكتب في مكتبة الجافيت. أنتمي إلى مقعدي المفضل المطل عالبحر، حيث حاولت كل قطة تقريباً في الجامعة الأميركية في بيروت سرقة وجبة الغذاء الخاصة بي. أنتمي إلى العشب الأخضر حيث قضيت ساعات مع زملائي الطلاب في إعداد اللافتات التي سيتم تعليقها في الخارج. أنتمي إلى عشرات قطع الكعك البيتي التي قمت ببيعها في القاعة الغربية لمساعدة اللاجئين. أنتمي إلى مجموعات الطلبة في الدراسات السياسة والإعلام حيث تعلمت العمل كجزء من فريق. أنتمي إلى أصدقاء العمر الذين إلتقيتهم في قاعات نايسلي وجيسوب. أنتمي الى أساتذتي الأعزاء الذين لم يكتفوا بتدريسي ونصحي، ولكنهم أيضا لم يبخلوا بوقتهم للجلوس معي ومساعدتي للتخطيط لمستقبلي، والذين كانوا يوماً بعد يوم  يغدقون علي بنظرات متعاطفة كلما تمت مناقشة أوضاع بلادي سوريا في الصف.

أنتمي للجامعة الأميركية في بيروت حيث عشت تجربة الديمقراطية لأول مرة في انتخابات الهيئة الطلابية. أنتمي للمكان الوحيد الذي كنت فيه متساوية مع زملائي الذكور، وهو الحق الذي غالباً ما تصادره مجتمعاتنا الذكورية. أنتمي إلى المكان الذي منحني حقي في التعبير عن رأيي بمطلق الحرية من خلال مناقشات الصف والواجبات بعيداً عن ثقافة الخوف المزروعة في المنطقة. أنتمي للمكان الذي لن أستدعى فيه للتحقيق بسبب قصة كتبتها، وكنت أتمنى حقاً لو أنني كنت لا أتحدث بناءاً على تجربة شخصية وأنا أقول هذا.

أنا أنتمي إلى هنا، حيث وجدت شغفي بالصحافة لإعطاء الناس الصوت الذي منحتني إياه الجامعة، حيث كنت وسأكون دائماً جزءاً من المجتمع الأكثر تنوعاً في الشرق الأوسط. في هذا المكان حيث تقف صفات التسامح والنزاهة والتعاون في تناقض مع إطلاق الأحكام المسبقة وانتشار ضيق الأفق على نطاق واسع في جميع أنحاء المنطقة. إذا كان المكان الذي يدعم الناس للوصول إلى قدراتهم الكاملة ليس المنزل، فنحن جميعاً لاجئون للأبد.

أخذتني رحلتي مع الجامعة إلى سالزبورغ، والنمسا، وآرهوس، والدنمارك حيث درست الصحافة والإعلام في سياق أجنبي مع العديد من الطلاب الدوليين، الذين تحول بعضهم إلى أصدقاء للحياة. لقد كانت قيم التسامح التي غرستها الجامعة الأميركية في بيروت بي هي التي ساعدتني على قبول الآخرين واحترام الثقافات والخلفيات والآراء، حتى تلك البعيدة جداً عن بلدي. وكان الانفتاح الذي اكتسبته هنا هو ما سمح لي بتحطيم الصورة النمطية التي كانت لدى زملائي الأجانب عن الشرق الأوسط. كما أن التدريب الذي تلقيته في الجامعة الأميركية في بيروت سمح لي بالعمل والتنافس مع الطلاب ذوي الخبرة من جميع أنحاء العالم.

ومع صعودي لسلم كلية الكيمياء للمرة الأخيرة بعد البروفات، أشعر بضيق في النفس وأنا متأكدة أن كثيرون يشاركونني نفس الشعور. لدي شعور بالامتنان لكوني قادرة على الوقوف هنا كخريجة من هذه المؤسسة الموقرة. كما أنني أنعم بالأمان لأنني بالفعل حصلت على وظيفة أحبها، في منطقة تعتبر فيها معدلات بطالة الشباب “من أعلى المعدلات في العالم”. سآخذ معي الأمل في أن الأجيال القادمة في سوريا لن تعتبر “أجيال مفقودة” بسبب عدم تمكنهم من الحصول على فرص للتعليم. سآخذ معي مسؤولية أن أبذل قصارى جهدي لهذه الأجيال لتجد طريقها كما فعلت.

أتذكر حين ورد اسمي في قائمة شرف العميد خلال عامي الأول في الجامعة. كاد والديَ أن يتصلا بكل معارفهم في مدينتنا حمص، ولكن للأسف اكتشفا أن صورتي لن يتم تعليقها على لوحة ضخمة في الحرم الجامعي. بعد أربع سنوات، هما هنا اليوم ولم يكن لديهما فكرة بأنني سوف ألقي كلمة. آمل ألا يشعرا مجدداً بخيبة الأمل وأن لايكونا قد شرعا في إجراء اتصالاتهما الهاتفية مع الأقارب. لم يكن لي أن أقف هنا لولا حبهما ودعمهما على مر السنين. 

شكرا لكم جميعا لوجودكم هنا الليلة للاحتفال بإنجازاتنا.

* رائد رياض القنطار، مرشح للحصول على درجة البكالوريوس في الهندسة المدنية من كلية الهندسة والهندسة المعمارية. 

رائد رياض القنطار

قام شخص ذكي جداً بإحضار لوحة للطلاب الخريجين كتب تحتها “أنا خريج ومستعد للتقاعد.” دفعتني هذه الصورة إلى التفكير ملياً بكل ما قمت به خلال السنوات الأربع الماضية وكل التجارب التي عشتها. أشعر حقاً أنني قمت بأداء العمل الأهم في حياتي في الجامعة هنا. لا أتحدث فقط عن كل الواجبات والاختبارات والمشاريع رغم أنها كافية بالتأكيد. ولكنني أتحدث عن تجربتي الكاملة في العيش في الجامعة الأميركية. 

سبق لي وأن سمعت خريجي الجامعة يصفونها بأنها “فقاعة آمنة قليلا” يمكن أن تساعد قليلاً على نسيان تحديات البلاد والمنطقة. سمعت تحالف خريجي الجامعة الأميركية في بيروت يقولون إن الجامعة علمتهم المثالية والانفتاح، وأعطتهم مساحة للتفكير بشكل جذري، والحلم حقا لتحقيق التغيير الإيجابي. 

سأتذكر دائما انتخابات الجامعة الأميركية في بيروت التي شاركت بها هذا العام. في البلد الذي يفشل تقريباً كل مرة في إجراء انتخابات، رأيت طلاب من أيديولوجيات ومعتقدات المختلفة، وطلاب من خلفيات مختلفة، مع آراء قوية جدا، وحملات انتخابية قوية جدا تستخدم كل الخدع المذكورة في كتاب الديمقراطية. رأيت مناقشة هؤلاء الطلاب لساعات، ومناشدتهم لأقرانهم للحصول على الدعم. سمعت منهم في مساكن الطلبة، والمناطق المخصصة للتدخين، وفي القاعة الغربية، ومكتبة الجافيت والملعب الأخضر وفي شارع بليس.

سمعت وشاركت في نقاشات حادة. عشت توتر يوم الانتخاب والتنافس على الأصوات. عشت فرح الفائزين وخيبة أمل الخاسرين بفارق أصوات قليلة. ولكن الأهم من ذلك، صورة لن أنساه أبداً: الطلاب من مشارب مختلفة يمشون بهدوء تجاه بعضهم البعض، يهنئون بعضهم البعض ويتعانقون، فهم أصدقاء رغم كل شيء. هذه هي الجامعة الأميركية في بيروت، فقاعتنا في العالم حيث الانتخابات متوترة وخطيرة، بينما هنا يمنح الأقليات مساحة للتعبير عن آرائهم دون خوف. بعد أربع سنوات في هذه الفقاعة، علي أن أوافق على هذا.

ليس هذا فقط ما يعكس روح الكرم في الجامعة الأميركية. في السنوات الماضية، شاهدت طلاب الجامعة يقاتلون في سبيل قضاياهم ومعتقداتهم. يتبرعون بأشيائهم الثمنية لمساعدة الأخوة والأخوات السوريين. شاهدتهم ينظمون فعاليات ومحاضرات لجمع أموال للمساعدة في التخفيف عن معاناتهم. سمعت أصوات تدعم القضية الفلسطينية. كما شاهدت الجالية اللبنانية الأرمنية في الجامعة الأميركية في بيروت في ذكرى الأحداث المؤلمة في تاريخ شعوبهم: شعبنا. رفع طلاب الجامعة الأميركية في بيروت أصواتهم ضد طغيان سيطرة الرقابة في لبنان.

دعمنا المدونين والناشطين. وناقشنا بشجاعة مواضيع جدلية كالزواج المدني وقانون العنف المنزلي. طالبنا بدولة علمانية ودافعنا عن حقوق المرأة وحقوق الأقليات. في ماراثون بيروت، ركض طلاب الجامعة الأميركية في بيروت من أجل البيئة، ومركز سرطان الأطفال وللأطفال المصابين بعيوب خلقية في القلب. عمل كل طالب في الجامعة الأميركية في بيروت من أجل شئ أكبر. حتى أننا تسببنا بقدر لا بأس به من المتاعب لإدارتنا  هذا العام لرفضنا التخلي عن وجهات نظرنا المثالية.

فهل يمكن التعجب من كوننا نشعر بالألم من اللحظة التي طالما انتظرناها؟ إن الحياة صعبة. اليوم نغادر فقاعتنا الدافئة إلى مكان التعبير فيه عن رأي مختلف يمكن أن يكون خطراً. نترك المكان الذي فيه كل شيء ممكن وحيث التفاؤل، إن وجد، يجب أن يكون حذرا للغاية. ولكن المجتمع اللبناني في حالة ثورة الآن. في كل مكان، النساء والعمال يطالبون بحقوقهم. يطالب اللبنانيون برواتب أفضل، وخدمة إنترنت أفضل، وتحسين البنية التحتية، وقوانين أفضل، وحريات أكثر اتساعا. ويطالب اللبنانيين بمستوى حياة أفضل. إنهم بحاجة لنا ولخبرتنا في النضال من أجل قضايانا. ونأمل، ألا نخذلهم.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى