مقالات رأي

فَلْتُضَحِّ بتعليم أولادك «عشان مصر»

ينشر هذا المقال بالتنسيق مع “جريدة الشروق“، حيث تم نشر المقال في الأصل. الآراء المعروضة هي آراء الكاتبة.

مزيد من الخصخصة ومزيد من الإهمال واللامبالاة.. يبدو أن هذه هى «الخطة» التى تنتظر التعليم فى الفترة المقبلة والتى يعلم الله وحده هل ستقصر أو تطول.

بما أننا نعلم مسبقا نتيجة «الانتخابات» الرئاسية المقبلة، نستطيع أن نجزم بأن آراء ــ ولا أقول رؤية ــ السيسى للخطوات التى يجب ــ أو لا يجب ــ اتخاذها تجاه التعليم تلخص ما نتوقعه من الدولة تجاه مواطنيها فى الفترة المقبلة.

حينما أكتب عن سياسات التعليم، دائما ما تتبادر إلى ذهنى كلمات مثل «استراتيجيات» أو «رؤى» أو «خطط» إلا أننى أجد نفسى عاجزة عن استخدام تلك المفردات فى ظل الاتجاه المتزايد والفاضح للدولة لاتباع اللا استراتيجية واللا رؤية واللا خطة عند التعامل مع التعليم.

ولا أفهم، كيف يمكن لأى حاكم أن يعد شعبه بالتقدم دون أن يضع التعليم على رأس أولوياته وخاصة فى بلد يسير فيه التعليم من سيئ إلى أسوأ وينحدر بسرعة الصاروخ. كيف يمكن أن نتخيل تقدم أى أمة مع استمرار تجهيل شعبها؟

قالها السيسى بوضوح: إن وضع المعلم ليس على قائمة أولوياته وإن أقصى طموحات المعلم فى عهده يجب ألا تتعدى الشكر والتقدير المعنوى على طريقة «أنت فى قلبى». وهكذا، فالمنتظر من المعلم كغيره من شرائح المجتمع فى عهد السيسى هو أن «يضحى عشان مصر»، فإن لم يجد قوته فعليه أن يأكل شكرا ويشرب تقديرا ويلتزم الصمت، ولن يسمح له بطبيعة الحال ــ كغيره ــ الاعتراض على تردى أوضاعه وسلبه حقوقه وإلا سيصبح حينها مواطنا غير وطنى يريد الخراب والتدمير لمصر ولهيبة مصر، على أساس أن المعلم أو غيره من المواطنين كيانات منفصلة عن مصر ولا يحق لهم الحصول على حقوقهم أو المطالبة بها.

ولم يتطرق السيسى من قريب أو بعيد لفكرة إعداد المعلم كمحور جوهرى وبديهى لتطوير التعليم، فلا يبدو أن هناك فهما حقيقيا لفكرة أن فاقد الشىء لا يعطيه وأنه لا يجوز مطلقا الحديث عن تطوير التعليم دون التركيز على أداة التطوير الأولى وهى المعلم، بل إن فكرة «التطوير» لا تبدو وكأنها واردة من الأساس.

وقالها السيسى بوضوح أيضا: إن خطته الوحيدة للتعامل مع ملف التعليم هو الاستعانة برجال الأعمال لبناء 20 ألف مدرسة. فالإجراء الوحيد الذى يبدو واضحا للدولة منذ سنوات عند التعامل مع التعليم هو اللجوء إلى رءوس الأموال لبناء مزيد من المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات، وهو بالمناسبة اتباع لنفس سياسات خصخصة التعليم التى بدأت فى عهد مبارك وتسير بخطى ثابتة، وهو إجراء فى ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.

خصخصة التعليم فى دولة شعبها معظمه على أو تحت خط الفقر هو ببساطة نسف للتعليم من جذوره. فبدلا من أن ترسى سياسات القضاء على الأمية ودعم الفقراء وجذبهم للتعليم، أنت ببساطة تقصر التعليم على القادر فقط بعد أن أهملت التعليم الحكومى إلى أن نسفت فكرة المجانية باستشراء الدروس الخصوصية فى جسد التعليم المجانى.

خصخصة التعليم تحول التعليم إلى سلعة استهلاكية والطالب إلى زبون مما يؤثر سلبا على العملية التعليمية ويجعل الربح هو المتحكم الحقيقى فيها وليس معايير الجودة. لقد عملت بالتدريس فى ست جامعات خاصة فى مصر وأستطيع أن أؤكد أنه بالرغم من إتاحة الإمكانات التى إن أحسن إدارتها واستغلالها وإحكام الرقابة عليها، فمن الممكن أن تتيح فرصة رائعة للتعليم، إلا أن تلك المؤسسات فى الأغلب الأعم هى فى النهاية مشروع استثمارى لصاحبها يهدف فى المقام الأول إلى الربح السريع بغض النظر عن مستوى الخدمة التى تقدمها ويستشرى فيها الفساد والمحسوبية مثلها مثل جميع مؤسسات الدولة الحكومية منها والخاصة.

خصخصة التعليم تزيد الفجوة بين الطبقات وتقضى على مبدأ تكافؤ الفرص فى التعليم. فحينما يحصل طالبان، أحدهما مقتدر والآخر فقير، على نفس المجموع فى الثانوية العامة ــ وهى الشهادة التى ارتضاها الجميع كمقياس لمستوى الطالب الأكاديمى، بغض النظر عن مشكلاتها المستفحلة ــ يقوم المجلس الأعلى للجامعات بتفضيل الطالب المقتدر منهما بالسماح له بشراء فرصته فى إحدى الجامعات الخاصة لدراسة التخصص الذى لم يؤهله مجموعه لدراسته فى الجامعات الحكومية، وعلى الطالب الفقير المتضرر أن «يضرب دماغه فى الحيط» ويختار تخصصا آخر بعيدا عن رغبته. وأتساءل، ما معنى امتحان الثانوية العامة إذن إذا كنا قد أوجدنا الباب الخلفى للأغنياء ممن هم دون المستوى الأكاديمى للحصول على شهادات فى تخصصات لا تناسب مستواهم؟

ولم تقتصر سياسات الرأسمالية على الجامعات الخاصة فحسب، فخصخصة التعليم طالت الجامعات الحكومية، فلقد بدأ اتجاه عام لتقسيم كليات كثيرة فى جامعات حكومية إلى قسم مجانى يتكدس فيه الطلبة على أرض قاعات المحاضرات وقسم بمصاريف بالآلاف خاص بأولاد الذوات الذين يدرسون فى قاعات مكيفة فى نفس الكلية وعلى أيدى نفس الأساتذة فى مشهد طبقى مقزز.

خصخصة التعليم إذن لا تهدف إلى خدمة السواد الأعظم من الشعب، بل تهدف إلى خدمة الشريحة القادرة فقط مما يعيد إنتاج الطبقية التى يعانى منها الشعب المصرى ويزيدها توغلا فى المجتمع.

وقد يرى البعض أن مجانية التعليم فى بلدنا قد أثبتت فشلها، إلا أننى أؤكد أن المشكلة فى المنظومة وليست فى المجانية. فالجميع يعانى من مستوى متدن من التعليم لا يقوى على المنافسة العالمية. بالإضافة إلى أن مستوى كثير من خريجى الجامعات الخاصة فى مصر قد يقل أو يزيد أو يتساوى فى متوسطه عن مستوى خريجى الجامعات الحكومية. فالفروق ترجع إلى الإدارة والمعايير المطبقة بالجامعة وليس إلى كونها خاصة أو حكومية، فمازال خريج هندسة القاهرة مثلا من أفضل خريجى الهندسة فى مصر. فالإمكانيات، على أهميتها، ما هى إلا محور واحد من محاور العملية التعليمية وليست هى العملية التعليمية بأكملها. إدارة تلك العملية والرقابة عليها هى مسئولية أصيلة من مسئوليات الدولة لا يحق لها أن تتنصل منها تجاه كل مواطن بغض النظر عن إمكانياته ولايجوز لها أن تتحجج بعدد المواطنين. فالصين التى تخطت المليار نسمة لديها واحد من أنجح نظم التعليم فى العالم، وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من أنجح النظم فى العالم إما مجانى تماما (مثل كندا، وفنلنده التى تقدم التعليم مجانى تماما حتى الدكتوراه) أو مدعوم دعما حقيقيا من الدولة (مثل سنغافورة).

التعليم حق المواطن على الدولة. التعليم ليس رفاهية يستحقها من يملك ثمنها. والدولة التى لا تستطيع توفير هذا الحق هى دولة فشلت فى أداء مهمتها بكل بساطة.

إذا كنا حقا نريد النهوض بالمجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية التى قامت من أجلها الثورة، فعلينا التصدى لسياسات الخصخصة التى دمرت كل مؤسسات الدولة، ولم يكن التعليم استثناء.

لا يوجد مستقبل بلا تعليم. فأنقذوه.

*أمل أبو ستة، طالبة دكتوراه في البحوث التربوية  في جامعة لانكستر، المملكة المتحدة.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى