مقالات رأي

حكاية طالب في جامعة نيويورك أبوظبي

الآن، بعد تخرجي من جامعة نيويورك أبوظبي غالباً ما يسألني الناس “كيف كانت الجامعة؟”

لم أعرف أبداً كيف يمكنني الإجابة على هذا السؤال: جيدة؟ غريبة؟ رائعة؟ صعبة؟ حلوة؟ إذ لا يوجد جواب واحد مطلق بإمكانني قوله. لكن في بعض الأحيان، تحديداً في الولايات المتحدة، يسأل الناس ذات السؤال بطريقة مختلفة وسهلة الإجابة كما أعتقد.

 “جامعة نيويورك أبوظبي؟ لماذا ذهبت إلى هناك؟”

ليس هناك جواب واحد أيضاً لهذا السؤال، لكنني على الأقل أمتلك جواباً.

لقد كانت مصادفة.

 قمت بالضغط من دون قصد على خيار ضمن طلب الانتساب الإلكتروني للجامعة، لينتهي بي المطاف على متن طائرة في رحلة لمدة ثلاثة أيام كمرشح نهاية الأسبوع. حيث يلتقي المتقدمون مع بعضهم البعض ويزورون  الجامعة، كما تقوم الجامعة أيضاً بفحص المتقدمين. في عطلة نهاية الأسبوع تلك، اجتمع 42 طالب من 39 دولة يتحدثون 37 لغة مختلفة.

قبل تلك العطلة، لم يكن لدي أي اهتمام بزيارة جامعة نيويورك أبوظبي.

بعد ذلك، عرفت أنه إذا ما قُدم لي شئ فإنني سأقبله. وقد قبلته.

 كانت التجربة مختلفة تماماً. كنت ممثلاً طموحاً، ولدت ونشأت في الولايات المتحدة، وكان لي مشاهداتي الخاصة عن مدينة نيويورك. لم أكن أفكر بالدراسة في الخارج. كما لم يسبق لي أن سمعت بدولة الإمارات العربية المتحدة.

لكن هذه الفرضية الغير متوقعة والرائعة أثبتت نفسها كسمة مميزة لتجربتي في جامعة نيويورك أبوظبي. كيف يمكن لمجموعة طلاب من مختلف الاختصاصات ومن 100 بلد مختلف أن يتقاسموا مبنى سكني واحد. كيف يمكن لدراستهم أن تجمعهم معاً من مختلف أنحاء العالم. كم يبدو غريباً أنه خلال سعي للحصول على شهادة في المسرح سأكون في الوقت نفسه مبرمج كمبيوتر، وفلكي، وباحث دستوري. أن أخذ دوروساً في الغناء وفن الدفاع عن النفس الهندي مع فنانين من جنوب الهند، وأن أدرس فن التهريج على أقنية أمستردام المائية.

أعتقد أنه من العدل القول أن أشياء قليلة في الجامعة كانت معتدلة. تخيل أنك تنضم لجامعة مأهولة بالكامل من قبل موظفين جدد، في مدينة جديدة تماماً بالنسبة لك وتختلف عن أي مكان تعرفه سابقاً. كانت الدورات مكثفة. لم يكن هنالك أحد متأكد من أين يمكن شراء معجون الأسنان. كان الجميع يدرك أنه في منتصف تجربة أكاديمية كبيرة. كانت الأشهر القليلة الأولى تشبه الدخول إلى غرفة مظلمة ومزدحمة حيث يتوجب عليك العثور على كافة الأثاث مستخدماً ساقيك.

 التنقل بين النقيضين:

يبدو المكان وكأنه يتأرجح بين النقيضين من الفرص المثيرة والتحديات العنيدة. كان زملائي ومازالوا من أكثر الأشخاص المتميزين الذين التقيت بهم في حياتي: كتاب ومؤسسي مجلات أكاديمية، وموسيقيين على مستوى عالمي وطهاة موهوبين بشكل مخيف. كانوا رائعيين،  وعطوفين في بعض الأحيان بشكل مذهل.

لكن في مجتمع صغير، لا يمنع التألق الصراع أو الانزعاج المتبادل. تعتبر جامعة نيويورك أبوظبي مكان انعزالي في مدينة معزولة بلا حدود ( فقاعة محاطة بفقاعات). خمسة وثمانين في المئة من السكان من المغتربين. درست اللغة العربية لمدة سنتين، لكنني وجدت شوارع كاملة من الناس الذين يتحدثون الأردية والهندية، والتاجالوجية (وبأغلبية ساحقة، اللغة الإنجليزية). يستغرق الانخراط تحت سطح المدينة جهداً كبيراً. عليك البحث وطلب المساعدة. في المجتمع الإماراتي على وجه الخصوص التقيت الكثير من الناس الذين يتوقون لتقديم المساعدة وشرب الشاي معاً أو المشاركة في وجبة طعام أو اصطحابي للعودة من حفل زفاف دون معرفة اسمي. لكن هذه اللحظات ليست تلقائية. إنها تستغرق قدراً كبيراً من الطاقة للتواصل.

كانت جامعة نيويورك أبوظبي ممتلئة بالمتفوقين. قال أحد الأساتذة خلال برنامج إرشادي استغرق أسبوعاً  “الغالبية العظمى منكم يحتلون المراتب العشر الأولى في فصولكم الدراسية. من الواضح، أنه لايمكنكم جميعاً التواجد هنا.”

بدأنا بالتحول، لكنها كانت عملية بطيئة، ومن دون أي نموذج لمقارنة تجربتنا وبالتالي لم نستطيع التأكد من أننا كنا على الطريق الصحيح. كنا متوترين. وصلنا إلى نقطة الانهيار. لكننا وجدنا العون.

في وقت متأخر في ليلة من ليالي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر فتح الطلاب نوافذهم واكتشفوا أن السماء تمطر. وسرعان ما أدركنا أنها لم تمطر ولو مرة واحدة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ليندفع قرابة المئة طالب من المدخل الخلفي للمبنى نحو الشارع. رقصوا تحت رذاذ المطر وغنوا أغاني للمطر وصاحوا بلغات مختلفة لأكثر من ساعة. كانت هذه اللحظة نقطة تحول بالنسبة لي من كوني مثبت بسبب التوتر إلى الضحك في شوارع وسط صحبة الكثير من الحظ الغير قابل للتصديق.

 ضريبة الامتياز:

كان ثمن كل هذا الشرف العظيم ملحوظاً في حد ذاته. لمدة أربع سنوات في الجامعة، لم يُطلب مني دفع أي مستحقات مالية للسكن والغذاء، ومصاريف التنقل لمسافات طويلة للإبحار حول العالم. كذلك الأمر بالنسبة للعديد من الطلاب في صفي. تلقى جميعنا مساعدات مالية، ولم يتخرج أحد وهو مديون.

الآن، وبعد تخرجي، لا أقضي وقتي في تسديد مصاريف تعليمي وهي نعمة لا تصدق. بدلاً من أن يُطلب مني الاستثمار في دراستي، استثمرت جامعة نيويورك وشركائها الحكوميين بي. لكن تكلفة دراستي لم تكن مالية فقط. عند تأسيس هذه الجامعة تم وضع مجموعة من معايير العمل الطموحة، والتي تم تأكيدها من قبل تقييمات مستقلة للموظفين العاملين في جامعة نيويورك مباشرة.

لكن وكما كشفت التقارير الأخيرة، فإن مقاولين جامعة نيويورك وشركائهم الحكومين فشلوا بالتمسك بهذه المعايير خلال كامل مدة بناء الحرم الجامعي الجديد في جزيرة السعديات. إن عمق هذا الفشل يبدو واضحاً، لكونه يعتمد في جزء منه على استجابة الجامعة والحكومة الذين وعدوا أن يكون سريعاً وشاملاً. ولكن ماذا علي أن أفعل؟ أنا لست متأكداً. ذنبي في هذه القضية ليس واضحاً.

 هل تستحق جامعة  نيويورك كل هذا؟

أعتقد ذلك. كان صف 2014 أول دفعة تتخرج من الجامعة، وتوزعت الأن على 137 طريق حول العالم، 137 مسار مختلف قد يتقاطعوا ولكن نادرا ما يتطابقوا أو يلتقوا مجدداً. لكن هذا الفصل هو جزء من كنز أعظم حصلت عليه بعد 4 سنوات: شعور عميق من الغياب.

كثيراً ما كنت أسمع أن الصف هو المكان الذي نتعلم فيه التفكير. لست متأكداً أنه يمكنني القول أنني تعلمت هذا- كيف يمكننا الوثوق في وعي العقل لذاته ولقيمته؟ لكنني تعلمت أن أشعر، أن أسمع طنين غياب الأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها. أعتقد مع ذلك، ربما، قد يأتي التفكير. آمل ذلك. وسأحاول قصارى جهدي لتحقيق ذلك.

تعلمت أنني لا أعرف معظم الأشياء المعروفة، وأنني أعرف أقل بكثير مما كان متوقعاً. قدمت جامعة نيويورك أبوظبي لمحة من العالم لي، لمحة عابرة ولكنها ليست من النوع الذي يُنسى. لقد توسع أفقي، وامتلأت خريطتي بالأسئلة. ماذا لم أرى بعد؟ ماذا لا أعرف أيضاً ؟

مع مشاهدة الأخبار، أسمع المزيد من الصراخ الصامت للغياب. أين الأصوات اليومية للغزاويين؟ أين الإسرائيليين اليائيسين من أجل السلام لوضع نهاية للصراع؟ لماذا لا أعرف ما المناقشات التي تجري في أوكرانيا الآن؟ أعرف أن هذه الآراء موجودة، لقد التقيت هؤلاء الناس. أين هم الآن؟ ماذا يقولون؟ لماذا لا يمكننا سماعهم؟

 يانيك ترابمان أوبراين ممثل وكاتب ومخرج يعيش حاليا في مدينة نيويورك، حيث يقوم بعمل فيلم وثائقي ضمن زمالة ليزا إلين غولدبرغ. في المستقبل القريب ، يخطط للانتقال إلى أمستردام، حيث سيتعلم اللغة الهولندية، ويعمل بالمسرح، ويأكل أجود أنوع الجبن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى