مقالات رأي

هل التعليم الجامعي “جايب همّه”؟

س: ما الذي يحدث لو قررت مجموعة من طلبة إحدى الجامعات المصرية احتلال مكتب رئيس الجامعة للإعتراض على رفعه للمصروفات وقراره تحويل الجامعة إلى مكان استثماري للمقتدرين، بدعوى رفع كفاءة العملية التعليمية؟

اختر الإجابة على السؤال من بين الإجابات التالية:

أ ـ اقتحام الشرطة لمكتب رئيس الجامعة والقبض على الطلبة وإحالتهم للمحاكمة العسكرية.

ب ـ إصدار قرارات فورية بفصل الطلبة وكل من يتضامن معهم وحرمانهم من دخول كافة الجامعات المصرية.

ج ـ دعوة طلبة الجامعة “الشرفاء” وأهاليهم من المواطنين “الأكثر شرفاً” للقيام بتحرير مكتب رئيس الجامعة والتعامل مع “الطلبة المخربين الذين يهددون مستقبل زملائهم من الطلبة الذين لا يجدون مشكلة في رفع المصروفات”.

د ـ كل ما سبق.

قبل أن تختار إجابة على السؤال دعني أطرح عليك سؤالا آخر: ما الذي يحدث لو قام مجموعة من طلبة جامعة أميركية باحتلال مكتب رئيس جامعتهم للإعتراض على سياسته التعليمية والمطالبة باستقالته وتعديل تلك السياسة؟ هل ستكون الإجابات السابقة مطروحة أصلا؟ أم أننا سنشاهد شكلاً مختلفاً في التعامل مع أولئك الطلبة؟.

من الناحية النظرية، يمكن أن يكون هناك تعامل أمني مع أولئك الطلبة، لأن اقتحام مكتب رئيس جامعة واحتلاله فعل يجرمه القانون الفيدرالي الأمريكي. لكن ذلك لم يحدث على أرض الواقع حين قام طلاب جامعة يونيون كوبر في مدينة نيويورك باحتلال مكتب رئيس الجامعة لإرغامه على الإستقالة. إذ سعى العقلاء في إدارة الجامعة لمنع البوليس من التدخل، معتبرين أن سلامة الطلبة أهم وأولى، وأن تدخل قوات الأمن لقمع الطلبة سيكون وصمة في جبين الجامعة، خاصة وأن الطلبة لم يقوموا باحتلال مكتب رئيس الجامعة احتجاجاً على انخفاض درجاتهم أو سعياً لمزايا لا يستحقونها، بل كانوا يدافعون عن هوية الجامعة التي أنشأها رجل الأعمال الشهير بيتر كوبر في عام 1859. فالجامعة تكفل التعليم المجاني لكل منتسبيها، وتتيح فرصاً لأبناء العائلات الفقيرة للحصول على حقهم في التعليم المتميز. قام كوبر بعمل وقفية ضخمة تضمن ذلك من بينها مثلا الأرض التي أشاد عليها مبنى كرايسلر الشهير في قلب نيويورك.

استمرت الجامعة في ضمان مجانية التعليم منذ إنشائها وحتى نهاية عام 2012، حين قرر مدير الجامعة الجديد جامشيد بهارشوا تغيير هوية الجامعة، معتبراً أن التعليم المجاني لم يعد له مكان في القرن الحادي والعشرين. بدأ بهارشوا في اجراءات لتوسيع مباني الجامعة وتطويرها، بعد استدانة مبالغ ضخمة من البنوك، ليخوض طلبة الجامعة ضده كفاحاً مريراً، وصل إلى حد احتلالهم مكتبه لمدة 63 يوماً، معلنين ثلاثة مطالب على رأسها الإطاحة به. ومع أنهم لم ينجحوا في نهاية المطاف في إزاحته من منصبه، لكنهم نجحوا في انتزاع قرار تجميد فرض رسوم على الملتحقين بالجامعة، إلى حين فتح حوار يشارك فيه الطلبة والمجتمع المحيط بالجامعة لتوفير حلول بديلة تحافظ على هوية الجامعة كما أنشأها مؤسسها وتواكب في نفس الوقت المصاعب المادية التي يتطلبها إيجاد تعليم جامعي محترم.

هذه الواقعة يروي تفاصيلها، فيلم وثائقي أمريكي مهم يحمل عنوان Ivory Tower “برج عاجي” من إخراج أندرو روسي. يتحدث الفيلم عن خطورة الأعباء المادية التي تفرضها الجامعات على طلابها، فتحولهم إلى عبيد يحاولون الخلاص من الرق بدفع القروض الضخمة التي استدانتها عائلاتهم لسداد المصاريف الجامعية. في المقابل، تفيد دراسات أن نصفهم على الأقل يفشلون بعد التخرج في الحصول على فرص عمل لها علاقة بشهاداتهم، فيضطرون للعمل في مهن متواضعة الأجر لا علاقة لها بما درسوه. بينما يحتل شباب أصغر منهم عمراً مراكزاً مرموقة في قائمة المليونيرات دون الحصول على تعليم جامعي، لأنهم راهنوا على أفكار مبتكرة تناسب عصرهم وتلبي احتياجاته. وهو ما يجعل الفيلم يطرح سؤالاً صريحاً يقول “هل التعليم الجامعي “جايب همه”؟ هل له جدوى حقيقية، أم أن من الممكن الإستغناء عنه؟ واللجوء إلى بدائل مختلفة توفر على الطلاب وذويهم عناء دفع المصاريف الباهظة وضمان فرص عمل حقيقية.

يروي الفيلم كيف تحولت الجامعات الكبيرة إلى عبء على التعليم الجامعي، لأنها وعلى رأسها جامعة هارفارد بالتحديد، أشعلت ما يمكن تسميته بسباق “البرستيج”، الذي يهدف ظاهره إلى رفع مستوى التعليم الجامعي لتمكين الخريجين من مواكبة احتياجات سوق العمل وتصميم برامج تكنولوجية متطورة مثل برنامج “سي إس 50” الشهير في جامعة هارفارد. لكن باطنه يخفي ارتفاع تكاليف العملية التعليمية بصورة مذهلة، لترتفع مصاريف التعليم الجامعي بنسبة 1200 في المئة منذ عام 1978، وهو ما جعل الجامعات الكبرى تتفنن في خلق وسائل لتنمية مواردها المالية. إذ قامت بعض الجامعات بتحويل سكن الطلاب إلى ما يشبه منتجعات سياحية باهظة التكاليف، دون التفكير في الآثار الإجتماعية التي سيسببها رفع أسعار التعليم الجامعي على حياة الأسر التي تقترض لإلحاق أبنائها بجامعات متميزة على أمل ضمان مستقبل جيد لهم، ليصل الدين الذي تدفعه بعض الأسر إلى 350 ألف دولار تتضاعف فوائدها بشكل منتظم. ويزيد الطين بلة، حين يفشل الطلبة بعد تخرجهم في الحصول على عمل، فيعجزون عن دفع ديونهم، ويتحطم مستقبلهم تماماً. في نفس الوقت يربط الفيلم ذلك الوضع المعقد، بالحالة المزرية للجامعات والكليات العامة التي لا تتقاضى من الطلبة مصاريف باهظة لأنها مدعومة مادياً من حكومات الولايات. ونظراً لأن تلك الجامعات لا تملك مصاريف لتطوير العملية التعليمية، تتحول تلك الجامعات في نهاية المطاف إلى مراكز ترفيهية مجانية، يشابه نمط الحياة فيها، ما نراه في الأفلام التي تصور حياة الجامعة بشكل مفرط في التحرر والصياعة.

لا يكتفي الفيلم برصد العيوب الخطيرة التي يعاني منها نظام التعليم الجامعي الأميركي الذي يسحق غير القادرين، بل يلقي الضوء على تجارب متميزة تحاول خلق فرص تعليمية متميزة لغير القادرين على دفع مبالغ ضخمة. حيث يقدم الفيلم تجربة جامعة Deep Springs College “ديب سبرنج”، التي تقع في منطقة نائية تعرف بإسم وادي الموت في جنوب ولاية كاليفورنيا وتقدم للملتحقين بها من الشباب الذكور برنامجاً تعليمياً لمدة عامين يتطلب منهم انقطاعاً كاملاً عن بيئاتهم، يتلقون فيها مناهج دراسية مكثفة في التاريخ والفلسفة والسياسة والآداب والفنون، بالإضافة إلى تعليمهم مهارات يدوية في الزراعة وإصلاح السيارات وتربية المواشي وكافة المهارات اليدوية، مع إشاعة جو ديمقراطي كامل في إدارة العملية التعليمية.

يمنح الطلبة الإعتراض على ما يتم تدريسه لهم، وإدارة حوارات حول ما ينبغي الحفاظ عليه وحذفه. في مقابل هذه التجربة الذكورية بسبب طبيعتها الخاصة، يعرض الفيلم لكلية سبيلمان في ولاية جورجيا التي تخصصت في تعليم الإناث السود للمساهمة في تحسين مستوى العائلات الفقيرة، ومنح بناتهن فرصة للحصول على وظائف جيدة بعيداً عن الوظائف المتواضعة التي يورثها الفقراء لأبنائهم. كما يعرض الفيلم لتجربة أكثر ثورية في التعامل مع التعليم الجامعي، هي تجربة حركة “اللا جامعة” التي تبنتها في مدينة سان فرانسيكو مؤسسة (ثايل) التي أسسها صاحب موقع “بيي بال”، وضم إليها مجموعة من الشباب المتسربين من التعليم الجامعي والرافضين لأعبائه الضخمة. حيث تنفق المؤسسة مبلغ 100 ألف دولار على 24 طالباً تركوا الجامعات والتحقوا بها، ليعملوا تحت إشراف المؤسسة على إنشاء مشاريع أعمال مشتركة بينهم وبين المؤسسة، فيبدأوا حياتهم العملية مبكراً، ويفلتوا من مخاطر إنفاق مبالغ ضخمة على التعليم الجامعي دون الحصول على وظيفة مناسبة في المستقبل تكفل تسديد قروضه.

عندما تشاهد هذا الفيلم الملهم وأنت تعرف مسبقاً، كيف تحتل الجامعات الأمريكية أعلى المراكز في ترتيب أفضل الجامعات في جميع التخصصات الدراسية تقريباً، تصيبك الحسرة حين تتذكر اختلال أولويات الإنفاق في بلادنا. حيث يتم إنفاق المليارات على تطوير الأداء القمعي والدخول في مغامرات عسكرية، بدلاً من انفاقها على تطوير التعليم الجامعي وربطه باحتياجات سوق العمل، وبدلاً من استسهال السعي إلى تحويل التعليم لتجارة للقادرين فقط، وحرمان غير القادرين من حق تكافؤ الفرص. ثم تصيبك حسرة أكبر حين ترى كيف تتم مهاجمة كل من يقدم نقداً حقيقياً للسياسات الحكومية الكارثية، حيث يتهم بنشر السلبيات والنظر فقط إلى النصف المكسور من الكوب القذر، وأنه يرغب في إحباط المعنويات من أجل إسقاط الدولة، بينما يدرك المجتمع الأكثر تقدماً، أن النقد الصريح لأوضاعه، ليس رفاهية ولا ترفاً، بل هو مسألة حياة أو موت للخروج من أوهام التفوق القاتلة، بالسعي إلى التطوير والإصلاح بشكل دائم.

* بلال فضل كاتب سيناريو وصحفي مصري.
AddThis Sharing ButtonsShare to FacebookShare to TwitterShare to ارسال ايميلShare to WhatsApp

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى