مقالات رأي

تعليم الصحافة في العالم العربي: التحديات والفرص الضائعة

قبل ثماني سنوات قامت مجموعة من طلبة إحدى الجامعات الحكومية الأردنية، التي تدرس الصحافة والإعلام، بحركة احتجاجية استمرت ثلاثة أيام رافضين الدخول الى قاعات المحاضرات. كانت عناوين هذه الحركة: نريد مناهجاً جديدة لتعليم الصحافة، وتعليماً جديداً، وأساتذة جدد، في إشارة الى حجم أزمة تعليم الصحافة والإعلام في الجامعات الأردنية، التي تعد من بين أفضل الجامعات العربية في الكثير من المؤشرات، فما بالك بحجم هذه الأزمة في الجامعات العربية الأخرى؟

تلك الحركة الاحتجاجية الصغيرة والغريبة على تقاليد الاحتجاجات الطلابية في جامعات الشرق الأوسط دفعتني لكتابة مقال في ذلك الوقت عن أولئك الطلبة الذين كسروا حاجز الصمت في الأبراج الأكاديمية، وكانوا من المبادرين إلى المطالبة بجودة التعليم في كليات الصحافة والإعلام. ودفعت ثمن تلك المقالة التي دافعت فيها عن مطالب الطلبة، إذ وجد بعض الأساتذة ذلك اصطفافاً مع الطلبة ضد الأساتذة. ومع ذلك لم تثمر تلك الحركة الاحتجاجية سوى عن تغيرات شكلية، هي تحويل القسم إلى كلية وزيادة أعداد الطلبة.

اليوم وبعد التحولات الكبيرة التي شهدها العالم العربي خلال السنوات الأربع الأخيرة يبدو واضحاً حجم دور التشوهات التي يعاني منها الإعلام وأهمية التركيز على واقع نظم تعليم الإعلام في العالم العربي كأولوية أساسية. كما يبدو مهماً الكشف عن عمق الفجوة بين تلك النظم وما يشهده تعليم الصحافة والإعلام في العالم من تحولات خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ومدى قرب مؤسسات تعليم الصحافة في العالم العربي من النقاش المحتدم منذ سنوات، حول الحفاظ على جودة الصحافة في ضوء التحولات الكبيرة التي تشهدها، بفعل تكنولوجيا الاتصال التي تقود في هذه الأثناء إلى تحولات جذرية في العملية الاتصالية والإعلامية، والانتقال الكبير من الاتصال العمودي التقليدي الى الاتصال الأفقي الجديد الذي يلعب فيه المواطنون الدور الرئيسي.

هذه التحولات العميقة في حقول الاتصال الجماهيري والصحافة كشفت عن جانب من أزمة الأداء المهني والأخلاقي في وسائل الإعلام، فقد ذهبت العديد من الوثائق إلى إحالة أزمة الصحافة وأزمة المهنية وفشل النموذج الاقتصادي لوسائل الإعلام إلى كليات الصحافة ولجمود التعليم الذي تعانيه. وهذه النقاشات وجدت صدى عميق في مؤسسات التعليم الصحافي في العديد من مناطق العالم، وانعكست في مراجعة مناهج التعليم وأساليبه، وفي الطريقة التي يتعلم بها الطلبة جمع المعلومات والأخبار، كما طرحت هذه المراجعات أسئلة أخلاقية أكثر عمقاً في الكثير من القضايا، منها الطرق التي يتعلمها الطلبة في التعامل مع المصادر المزدحمة للمعلومات، والمحتوى الذي ينتجه المستخدمون وغيرها.

أزمة تعليم الصحافة في العالم العربي لها أوجه مختلفة بالمقارنة مع ما يدور حوله النقاش في المجتمعات الغربية، وللأسف، على الرغم مما شهدته السنوات الاخيرة من ازدياد الاعتراف في المنطقة العربية بقوة تأثير وسائل الإعلام في الشأن العام، وازدياد الاختلاف حول تقييم هذا الدور، فإنه لا يوجد نقاش جاد أو مبادرات تتناول واقع تعليم الصحافة، المبادرة الوحيدة – في حدود علم الكاتب – أطلقتها اليونسكو بالتعاون مع جامعة القاهرة العام 2011، وهي مبادرة صغيرة لتقييم أداء كليات الصحافة المصرية، ولم نسمع عن نتائجها.

 إن مراجعة ملامح نظم تعليم الصحافة والإعلام في الجامعات والكليات العربية يكشف جذور التحديات التي تواجه تطوير الإعلام في العالم العربي، وحجم الفرص الضائعة التي كان من المفترض أن يساهم التعليم من خلالها في تطوير مهنة الصحافة، وما يعني ذلك من مصفوفة طويلة من التأثير في الحياة العامة، وفي جعل الشؤون العامة أولوية أساسية للجمهور، وفي إنضاج المشاركة العامة، وتعزيز فرص التحول الديمقراطي ومكانة حقوق الإنسان، وبناء مؤسسات مدنية، ومجتمع تعددي يؤمن بالتنوع.

وعلى الرغم من أن هناك تنوعاً في نظم تعليم الصحافة في الجامعات العربية، نرصد أهم ملامح هذه النظم المتمثلة في التوسع الكمي الكبير، حيث يوجد في العالم العربي نحو 135 برنامجاً أكاديمياً لتعليم الصحافة والإعلام في الجامعات العربية، معظمها ظهر في آخر عقدين، ومنها على سبيل المثال 19 برنامجاً في الجامعات المصرية، و7 برامج في الجامعات الأردنية. وهناك تفاوتاً كبيراً في توفر المرافق والبنية التحتية الملائمة في الجامعات ومستواها، مثل المختبرات والأستوديوهات، ولكنها في الأغلب غير مستثمرة في تنمية الجانب التطبيقي.

لكن هذه البرامج لم تطور في المقابل نظما للجودة الأكاديمية، أو للتميز والمنافسة. ويلاحظ هذا الاستنتاج في فهم مدخلات هذه البرامج، ومنها الخطط الدراسية تقليدية، التي لم  تستجب للتحديث، فما زالت الخطط الدراسية في أقسام كليات الإعلام في معظم الجامعات العربية، غير محدثة بما يستجيب للتطور الذي شهده علم الصحافة والإعلام، ولم تُدخَل إليها مواد في الإعلام الرقمي، ولم تستجب للتطور الكبير في تكنولوجيا الاتصال. وعلينا أن نتذكر في هذا المجال أن الكثير من الدول العربية لا يوجد لديها هيئات اعتماد لمؤسسات التعليم العالي لتحديد معايير اعتماد الأقسام الأكاديمية، وفي الدول القليلة التي تتوفر لديها هيئات اعتماد، فإن معايير اعتماد الأقسام ما تزال بعيدة عن التحولات الكبيرة التي يشهدها الإعلام، فعلى سبيل المثال ما تزال معايير الاعتماد لإحدى هيئات الاعتماد العربية تتطلب وجود مختبرات لتحميض الأفلام بالطرق التقليدية.

إن من أهم التحديات التي تواجه تعليم الصحافة والإعلام التركيز على المعرفة النظرية على حساب التطبيق، إذ تركز الخطط الدراسية في معظم البرامج على الأطر النظرية، فيما لا تتجاوز المهارات التطبيقية في أحسن الأحوال 10 في المئة، ما ينعكس سلباً على نوعية الخريجين وقدرتهم على المنافسة في السوق. وضعف الاستجابة للتجديد والتكيف مع التغيير والاندماج السريع مع التكنولوجيا وبيئات الأعمال الجديدة. وهذا ينسحب على ضعف انفتاح كليات الإعلام على وسائل الإعلام الوطنية والإقليمية والاتصال بها، فلا ترتبط المؤسسات التعليمية بعلاقات تعاون تكاملية تنعكس على نوعية التعليم وعلى البحث العلمي.

للأسف ورغم وجود تجارب رائدة في بناء الهيئات التدريسية مثل برامج الابتعاث والمنح الدراسية، إلا أن معظم هذه البرامج توقفت في الجامعات العامة والخاصة. ففي الأردن توقفت برامج المنح الخاصة بإرسال الطلبة لجامعات مرموقة والعودة للتدريس في أقسام الصحافة منذ نحو عقدين. وفي جامعة القاهرة، التي تحتضن أعرق كلية إعلام عربية، نجد معظم أعضاء هيئة التدريس هم من خريجي الكلية نفسها، ونلاحظ اليوم ندرة في المتخصصين في مجالات الصحافة والإعلام من حملة درجة الدكتوراة فيما ترفض معظم تلك الجامعات الاستفادة من خبرات الخبراء والمهنيين من خارج الاكاديميين. يحدث ذلك في الوقت الذي تتوسع فيه الجامعات بافتتاح برامج جديدة في هذه المجالات، ما يدفعها الى التراخي في التدقيق في معايير الكفاءة، ويتكرر ذلك في عدم وجود معايير ومتطلبات جادة في اختيار الطلبة المقبولين في أقسام الصحافة، مثل الاختبارات والاستعداد والشغف لدى الطالب بأن يصبح صحافياً.

لقد أثبتت التحولات العربية بعد العام 2011 دور الإعلام في إحداث التغيير وإدارته، في الوقت الذي كشفت فيه هذه التحولات الفجوات الكبيرة في أدائه، فالإعلام العربي الذي كان حليفاً للسلطة في الماضي، ما زال عاجزاً عن أن يكون حليفاً للديموقراطية، وهذا يطرح سلسلة من القضايا الأساسية، من بينها تأهيل الصحافيين العرب، وإصلاح نظم تعليم الصحافة والإعلام، وذلك في ضوء المتغيرات الآتية:

  • تتزامن مرحلة الانتقال السياسي نحو الديموقراطية، التي يشهدها عدد من المجتمعات العربية، مع ثورة إعلامية واسعة. وفي وقت من المفترض فيه أن تنهض وسائل الإعلام بدورها في توطين قيم الديموقراطية وتوفير قنوات حرة ونزيهة لتدفق المعلومات، ومنابر متعددة للنقاش العام، إلا أنها لم تقم بهذا الدور، إذ أن معظم الصحافيين العرب قد نشأوا وتلقوا تعليمهم في ظل أنظمة ديكتاتورية، وفي مؤسسات تعليم تقليدية.
  • تشهد وسائل الإعلام العربي تحولات واسعة في هيكل مؤسسات الإعلام وملكيتها، مع بدء تخلي الحكومات عن احتكار ملكية وسائل الإعلام، مما يتيح للقطاع الخاص والمجتمع فرصة امتلاك وسائل الإعلام وإدارتها، وهذا الأمر يؤدي إلى ظهور منافسة حقيقية بين وسائل الإعلام، تحتاج إلى صحافيين مهنيين منافسين، ما لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود نظم تأهيل وتعليم وتدريب ذات جودة عالية.
  • كشفت محاولات التحول الديمقراطي في المجتمعات العربية، التي شهدت ثورات شعبية منذ مطلع العام 2011، حالة من الفوضى الإعلامية؛ لقد كشفت هذه التحولات فجوة مهنية وأزمة أخلاقية وضعف في تأهيل الصحفيين في استخدام الأدوات الرقمية  يتطلّب ردمها بإصلاح نظم تعليم الصحافة والإعلام.

تكمن الأهداف التي يجب على الجامعات العربية  أن تطمح للوصول إليها بكل بساطة في الاندماج في العالم الرقمي، والمزيد من الحرص على تعليم أصول الصحافة في القيم والأخلاقيات والممارسات المهنية، كان جوزيف بوليتزر يقول “إن الصحافيين الذين لا يتعلمون مهنتهم في كليات علمية يتعلمون مهنتهم على حساب الجمهور”. وإذا لم تتطور كليات الصحافة في الجامعات العربية، فإن الكثير من الصحافيين العرب سيبقون يتعلمون مهنتهم على حساب الجمهور وسيقى الجمهور أسيراً للاستبداد والفساد.

* د. باسم الطويسي/ عميد معهد الإعلام الأردني.                                                       

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى