مقالات رأي

التربية الإعلامية تقدم فرصاً لتقدم العالم العربي

منذ بدايتها في منتصف القرن العشرين، أصبحت التربية الإعلاميّة ركناً أساسيّاً في العديد من برامج الإعلام في جميع أنحاء العالم. لكنّ العالم العربي بقي إستثناء في هذا المجال. فقبل عقدٍ من الزمن، لم توفّر أيّة جامعة عربيّة برامج لمحو الأميّة الإعلاميّة. حتّى إنّ المصطلح كان غريباً بالنسبة لمعظم الأساتذة في مجال الإعلام، بحسب الدراسة التي أجريتها عام 2005.

وعندما سألت بعض الزملاء حول فكرة إدخال مناهج وبحوث في مجال محو الأميّة الإعلاميّة ليتمّ تدريسها في جامعتي – الجامعة الأميركيّة في بيروت – لم تكن ردودهم مشجّعة، إذ قالوا بأنّ محو الأميّة الإعلاميّة يعدّ مجالاً حسّاساً بالنسبة للآباء والأمّهات الذين يشعرون بالقلق حيال عادات مشاهدة التلفاز لدى أطفالهم. وبصفتي أب لثلاثة أطفال فأنا أشعر بالقلق حيال إستهلاكهم للمواد الإعلاميّة، وأقوم بضبط القائمة بشكلٍ دقيق. ولكن وبصفتي أستاذ وناشط يشعر بالقلق إزاء أجيال من الأطفال العرب الذين يكبرون تحت تأثير وسائل إعلام مضلّلة، لذا شعرتُ بأنّ لمحو الأميّة الإعلاميّة دورٌ في غاية الأهميّة.

كانت أوّل حلقة دراسيّة حول محو الأميّة الإعلاميّة تمّ إدخالها للجامعة الأميركيّة في بيروت في عام 2009 مصاغة بشكلٍ تام تقريباً للمنهاج الذي طوّرته الأستاذة التي أشرفت على شهادة الدكتوراه الخاصّة بي في كليّة الصحافة في جامعة ميريلاند، كولج بارك. إذ غرست سوزان مولر في منهاجها موضوعات متنوّعة تتناول قضايا من الحياة اليوميّة للطلاّب، بما في ذلك ملكيّة وسائل الإعلام، وصياغة الأخبار والسياسة، والتصوير الفوتوغرافي والحرب، وصورة الجسد، وتقدير الذات، والعنف، والجنس، والعرق، والجنسانيّة، والدعاية الكاذبة “البروباغاندا”. ساعدتّ أنا وزميلي بول ميهايليدس، وقد كان كلانا يدرس دكتوراه تحت إشراف الدكتورة مولر في وقتها، الدكتورة في تطوير المنهاج الدراسي. دفعنا معنا بإتّجاه منظور أكثر عالميّة، وإدخال كفاءات لمحو الأميّة الرقميّة، وترسيخ هامش للنشاط المدني. وأدخلنا في المحاضرات النظريّة مجموعة من المهام المتينة للطلاّب.

كانت الفلسفة التي نسير على هديها تركّز على كون محو الأميّة الإعلاميّة أكثر بكثير من مجرّد تعليم الطلاّب على كيفيّة الوصول إلى، وتحليل وتقيّيم الرسائل الإعلاميّة. وقد كان هذا هو التعريف التقليدي لمحو الأميّة الإعلاميّة طوال عقود.

يجب على محو الأميّة الإعلاميّة والرقميّة أن تركّز على كيفيّة القراءة والمشاهدة والإستماع الناقد للرسائل الإعلاميّة، وفك شفرات الأيديولوجيّات الكامنة وراءها، وتقيّيم النوايا الدعائيّة والسياسيّة والتجاريّة التي تتضمّنها، ووقاية المستهلكين لوسائل الإعلام من بعضٍ من آثارها الخفيّة، والضارّة، والمثيرة للكراهيّة. لكنّ محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة تمنح الأفراد أيضاً القدرة على إدارة عاداتهم الإعلاميّة بذكاء، وإستخدام الوسائل الرقميّة بصورةٍ فعّالة للأغراض الشخصيّة، والسياسيّة، والتجاريّة، والمشاركة في النقاشات الوطنيّة والعالميّة. حيث سيتعلّم الأفراد التعبير عن آرائهم بشكلٍ فعّال والدفاع عن معتقداتهم. كما سيوفّر محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة المعرفة والكفاءات التي تحتاجها المجتمعات المهمّشة والمحرومة لخلق حالة من التوازن تقابل قوّة شركات الأعمال الكبرى، وتكدّس الثروات، والسلطات الحكوميّة الجامحة.

إنّ محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة هو تثقيف إعلامي للجماهير. إنّه يمثّل الثورة الصامتة التي يمكن لها أن تواجه أيديولوجيّات الجشع، والكراهيّة، والموت، والكفاح من أجل تعميم وعولمة العدالة الإجتماعيّة وأنظمة المساواة.

وما أن مرّ عام واحد فقط على إدخال المنهج إلى الجامعة، حتّى لاقت مادّة محو الأميّة الإعلاميّة نجاحاً في أوساط الطلاب، لتصبح بعد فترةٍ وجيزة حلقة دراسيّة تثقيفيّة عامّة ومفتوحة لعموم الحرم الجامعي. لكن وحتّى العام 2011، ظل محو الأميّة الإعلاميّة محدوداً بشكلٍ كبير في عددٍ قليل من جامعات النخبة في المنطقة وبحاجة شديدة لأن يتم إعادة تركيزه على المستوى المحلّي، مما يمكن إنجازه فقط من خلال إجراء أبحاث محليّة. لذلك، بدأت مجموعة من الطلاب والأساتذة العرب والأجانب الشغوفين في عام 2010 بتطوير أساليب تعليم محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة في المنطقة العربيّة. كان العديد متشكّكين لأسبابِ مفهومة، بسبب الإرهاب، والحروب الأهليّة، والثورات، والأنظمة الإستبداديّة في عموم أرجاء المنطقة. من الذي سينظر لمحو الأميّة الإعلاميّة بإعتبارها أولويّة في مثل هذا السياق الكئيب؟ ولكنّ منحاً سخيّة من مؤسّسات المجتمع المفتوح، ومن ثمّ من مؤسسة المونيتور للأخبار والهيئة الألمانيّة للتبادل الثقافي DAAD منحتنا بعض الأمل. في عام 2011، عقدنا مؤتمراً تحت عنوان “محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة: الإتّجاهات الجديدة”. بعد ذلك، أصبح مصطلح “محو الأميّة الإعلاميّة” مصطلحاً يأخذه أساتذة الإعلام العربي على محمل الجدّ. لكنّ الكثيرين منهم قالوا إنّهم يفتقرون للمهارات الرقميّة التي تؤهّلهم لتدريسه، وبأنّهم يحتاجون أيضاً للمناهج الدراسيّة المتعلّقة بالموضوع باللغة العربيّة.

لذا وفي عام 2013، أطلقنا أوّل أكاديميّة للتربية الإعلاميّة والرقميّة في بيروت MDLAB للمساعدة في هذه القضايا. كان الهدف تدريب العشرات أو نحو ذلك من أساتذة الإعلام العرب والقيام معاً بوضع مناهج لمحو الأميّة الإعلاميّة، ليس باللغة العربيّة فحسب، بل نابعاً من الثقافات العربيّة أيضاً.

في البداية، ساورتنا الكثير من الشكوك. كيف سيتم إستقبال المشروع؟ هل سينظر الأكاديميّون العرب للأمر على أنّه إستيراد من قبل الجامعة الأميركيّة لمنهج دراسي من الغرب؟ وهل سيكون في إمكاننا مناقشة موضوعات حسّاسة – تمتد من الجنس والجنسانيّة وحتّى الطائفيّة والإرهاب – في غرفة مليئة بالأكاديميّين العرب ممّن ينتمون لشتّى الأقسام الطائفيّة والثقافيّة والسياسيّة؟ كانت هنالك مجازفة من الإدارة في بيروت في وقتٍ كان فيه العنف السياسي والسيّارات المفخّخة روتيناً يوميّاً تقريباً في نشرات الأخبار. وقبل يومين فقط من إنعقاد الأكاديميّة، تمّ إختطاف طيّار تركي في لبنان، ممّا أثار أزمة دوليّة. وإنفجرت سيّارتين مفخّختين على بعد خمسة أميالٍ فقط من الحرم الجامعي. فإعتقدتّ بأنّنا سنكون محظوظين إذا نجحنا فقط في استضافة الحدث  لمرّة واحدة. لكنّني كنت مخطئا في ذلك.

كان الصدى مذهلاً. فقد حضر ضعف العدد المتوقع من المشاركين. وتبنّى أساتذة وطلاّب دراسات عليا من سوريا، وفلسطين، والعراق، والأردن، ولبنان من المتحمّسين للتعلّم والمشاركة في النقاشات، أسس محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة. وسرعان ما أدركنا مدى حاجتنا الماسّة لمحو الأميّة الإعلاميّة في العالم العربي. “يجب ألاّ تتوقّف هذه الحركة،” قال أحد الأساتذة من جامعة دمشق، “نحن بحاجة ماسّة لهذا النوع من التعليم أكثر من أيّ وقتٍ مضى إذا ما كنّا نأمل في مواجهة ثقافة الكراهيّة، والجهل، والموت في منطقتنا.” ففكّرت في داخل نفسي وقلت، “مدهش! هذا الرجل، الذي لا يعرف إذا ما كانت جامعته ستظل قائمة عندما يعود إلى سوريا، أو إذا ما كانت عائلته ستكون على قيد الحياة، أو حتّى إذا ما كان بلده سيبقى موجوداً عند مغادرته للبنان، يرى في محو الأميّة الإعلاميّة توجّه يمكن أن ينتشل مجتمعاتنا من هذا الجحيم العميق التي إنحدرت إليه، لذا لا يمكن العودة للوراء”.

وبعد عامٍ واحد، كانت جامعة دمشق من بين أوّلى المؤسّسات في إدخال مادّة محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة في مناهجها، وهو إنجازُ لا يمكن تصديقه نظراً للبيروقراطيّة التي يتوجّب على الأكاديميّين السوريّين أن يناوروا معها من أجل إحداث أيّة تغيّيرات جوهريّة في المناهج الدراسيّة، ناهيك عن ظروف الحرب.

اليوم، تقوم حوالي عشرين جامعة عربيّة بتدريس محو الأميّة الإعلاميّة. وقد أدخلت بعضٌ منها دورات كاملة. فيما قامت أخرى بإستعمال الوحدات التي وضعتها أكاديميّة التربيّة الإعلاميّة والرقميّة في بيروت MDLAB لتتخلّل المواد المنهجيّة لمحو الأميّة الإعلاميّة دورات الإعلام التقليديّة الخاصّة بهم. الأهم من ذلك، هو مساعدة أكاديميّة التربية الإعلاميّة والرقميّة في بيروت MDLAB للعديد من الأكاديميّين من أجل تركيز مناهج محو الأميّة الإعلاميّة الخاصّة بنا على أولويّات المجتمعات العربيّة. ففي الجامعة الأميركيّة في بيروت، يتضمّن المنهج الدراسي الأساسي الآن موضوعات حول الإرهاب، والطائفيّة، والتطرّف، والحرب، ويؤكّد على حقوق الإنسان، والتسامح، والمواطنة العالميّة. ويعود الفضل في هذا النجاح المدهش للعديد من الزملاء العرب والأجانب ممّن ساهموا في إنجاح هذا الجهد، بدءاً من بعض النجوم العالميّين البارزين في مجال محو الأميّة الإعلاميّة وحتّى بعضٍ من طلاّبي السابقين.

نحن متحمّسون لكون أكاديميّة التربية الإعلاميّة والرقميّة في بيروت MDLAB ستشمل من بين المشاركين فيها هذا العام مدرّسين من الكليّة الدوليّة في بيروت، وهي مدرسة إعداديّة تابعة للجامعة الأميركيّة في بيروت، وأوّل مدرسة عربيّة تعتبر محو الأميّة الإعلاميّة أولويّة إستراتيجيّة بشكلٍ رسمي. يتمثّل هدفنا بأنّه وبحلول نهاية هذا العقد ستمتلك كل دولة عربيّة مدرسة واحدة وجامعة واحدة على الأقل تدرّس محو الأميّة الإعلاميّة كمنهجٍ دراسيّ أساسي.

لكنّنا لا نزال بعيدين عن تحقيق أهدافنا. حيث إنّ تقديم دورة واحدة أو أكثر على المستوى الجامعي ليس بالأمر الكافي. لأنّ تعليم الإعلام العربي نفسه بحاجة لتأصيل محو الأميّة الرقميّة والإعلاميّة، وتحتاج دورات محو الأميّة الإعلاميّة لأن تكون أساسيّة على جميع طلاّب الجامعة، وليس للمختصّين في مجال الصحافة والإعلام الجماهيري فقط. نحن بحاجة لإنشاء المزيد من الوحدات والدورات المتوفّرة على الإنترنت باللغة العربيّة من أجل الوصول إلى جمهورٍ أوسع. والأكثر من ذلك، هو حاجة التربية الرقميّة والإعلاميّة للتحرّك على طول الطريق وصولاً إلى المدارس. نحن بحاجة لتأسيس مجموعة متميزة من الأساتذة، والأكاديميّين، والباحثين القادرين على الإرتقاء بالبحوث والتربية الإعلاميّة إلى المستوى التالي إلى المستوى الذي يمكننا فيه حقّا مواجهة ثقافة الكراهيّة، والجهل، والموت في منطقتنا.

لكل زملائي الموقّرين المتشكّكين، أقول، أنتم على حق. الأمر برمّته يتعلّق بأطفالنا …وأحفادنا …وأطفالهم. وأيّ سببٍ أكثر أهميّة منهم لنكرّس أبحاثنا، وتعليمنا، وحياتنا من أجله؟

 * جاد ملكي، أستاذ مشارك في دراسات الصحافة والإعلام في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ومؤسّس أكاديميّة التربيّة الإعلاميّة والرقميّة في بيروت.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى