مقالات رأي

حوار مع مدوّن صفحة “عين الموصل”

ينشر الحوار بالتزامن مع نشر مقال حول مدونة “عين الموصل”.

مع السقوط السريع لمدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، قبل أكثر من عام، وإستيلاء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على مساحات شاسعة من الجزء الشمالي الغربي من البلاد، يبقى من الصعوبة بمكان الحصول على معلومات دقيقة حول طبيعة ما يجري هناك. لكن يحاول عدد قليل من المواطنين والناشطين، معرضين أنفسهم لخطرٍ جسيم، تسليط الضوء على الوضع داخل المدينة.

وتعتبر “عين الموصل Mosul Eye” واحدة من أكثر المدونات دقة عن الحياة في ظل حكم تنظيم الدولة الإسلامية. ومع الإبقاء على هوية صاحبها مجهولة، يتحدث كاتب الصفحة في مقابلة حصرية مع الفنار للإعلام، عن عمله ومدينته.

– كيف قررت أن تبدأ بعملية التدوين؟

أنا مهتم بالتدوين منذ فترة طويلة. في عام 2003، وبعد الحرب على العراق، بدأت بجمع كل ما يتعلق بالجماعات المتمردة المسلحة في أرشيف أصبح ضخما ولا يزال ينمو. يحتوي هذا الأرشيف على معلومات عن جميع تلك المجموعات تقريبا، بما في ذلك بعض من وثائقهم الأصلية مثل المنشورات والمطبوعات. وبعد إحتلال الموصل، لم أرغب في التوقف عن التدوين، بل على العكس من ذلك، كنت مصمما على توثيق اللحظات الأولى لذلك الإحتلال من أجل حفظ هذا التاريخ للمستقبل، ومن أجل فهم طبيعة الأحداث والكيفيّة التي إستقبلها الناس بها. لذلك بدأت بكتابة ملخصات على شكل منشورات أشاركها على حسابي الشخصي على موقع الفيسبوك. ومن ثم، وبعد إستشارة أحد الأصدقاء، إنبثقت فكرة إنشاء صفحة “عين الموصل” على الفيسبوك. وأكدت بأنني لست صحفيا، بل مؤرخ، وأن هدفي هو توثيق الأحداث كما هي، مع الإحتفاظ بآرائي منفصلة عن عملي.

لقد كانت صفحة “عين الموصل” مخصّصة لقراء اللغة الإنجليزية على وجه الخصوص، لأنني أعتقد بأننا بحاجة لأن نوصل الأخبار عن الموصل إلى الغرب، لأن القوى العربية لا تشكل لاعبا إيجابيا وحقيقيا في الأزمة العراقية. لكنني بدأت العمل أيضا على صفحة إسمها “موريس ميلتون Maouris Milton” موجهة لقراء اللغة العربية.

– هل يشكل التدوين من داخل المدينة عملا خطيرا؟

بإختصار، إن أيّة كلمة تخرج من الموصل، ويمكن أن تشعر بها داعش، تعتبر مبررا للموت وفقا لمبادئهم. ويمكن أن يواجه المدون، وعائلته، وكل من يرتبط به بأية صلة، خطر الموت. المخاطر كبيرة جدا ومستمرة. لقد تلقيت العديد من التهديدات من قبل داعش، وفي التهديد الأخير قالوا بأنهم سيخترعون طريقة لقتلي لم تعرفها البشرية من قبل.

الخطر الحقيقي لا يكمن في التدوين بحد ذاته، بل في الحصول على معلوماتٍ دقيقة مع الحفاظ على سلامتك وعدم الكشف عن هويتك. لقد إستخدمت العشرات من الشخصيات والأساليب من أجل الحفاظ على سلامتي. لقد إخترقت داعش من أكثر بواباتها تحصينا من دون أن يشعروا بذلك. أنا أقر بأن ذلك كان مبهجا بطريقة ساعدت في التخفيف من مخاوفي في أن أتعرض للقتل على أيدي مقاتلي داعش.

– إلى أي مدى أصبحت مدونتك الخاصة مصدرا للصحفيين والباحثين؟

أصبحت “عين الموصل” واحدة من أكثر المصادر الموثوقة بالنسبة للصحافيين الدوليين على وجه الخصوص. لقد تلقينا العديد من الطلبات بهدف إجراء مقابلات معهم. وعلاوة على ذلك، فقد تلقت المدونة عرضا من إحدى المؤسسات الأكاديمية لتكون “مصدرها الأساسي” بالنسبة لدراساتها المستقبلية عن الموصل. أعتقد بأنني نجحت في لفت إنتباه الرأي العام نحو الموصل، وأنا عاقد العزم على مواصلة القيام بذلك حتى النهاية.

– كيف كان رد فعل الجمهور حيال صفحة “عين الموصل”؟

لدينا أكثر من 11.500 متابع من العديد من البلدان. وهم يرحبون بعملنا ويقدرون ما نقوم به. ومع ذلك، هنالك بعض الأشخاص، لاسيما من العراقيين، ممن لا يفهمون منشوراتنا، أو يسيئون تفسيرها على أنها وسيلة لدعم داعش. إنهم يرفضون معرفة الحقيقة، وهذه مشكلة كبيرة. أحيانا أفكر في التوقف عن التدوين بسبب التعميمات التي يطلقها بعض الناس. فيما يعبر آخرون عن قلقهم عندما يكون هناك إنقطاعات في تدويننا. هنالك تغطية إعلامية ضئيلة جدا عن العراق الآن. حيث يركز المراسلون الآن على قضية الهجرة.

– في رأيك، ما هي العوامل التي ساهمت في سقوط الموصل؟

لم تكن العلاقة بين مواطني الموصل والحكومة العراقية جيدة. كما لم تكن الطريقة التي يتصرف بها الجيش العراقي في الموصل جيدة هي الأخرى. مع ذلك، يجب القول بأنه لم ترحب المدينة بأكملها بداعش. في البداية، رحبوا بقوة مجهولة دخلت المدينة لتحل محل القوة “القمعية” الأولى، كما أن وسائل الإعلام لم تنقل كون أولئك المقاتلين من تنظيم داعش. ولم يكن بمقدور الناس العاديين قراءة ما بين السطور لمعرفة ما كان يحدث. كما إننا بحاجة لدراسة وجهات النظر عن واقع الإسلام الراديكالي في المدينة. كيف كان يتم إستقبال شخصيات من أمثال أسامة بن لادن، أو الهجمات الإرهابية مثل تلك التي حدثت في 11 أيلول/سبتمبر 2001؟ الكثير من الناس في الموصل معجبين بمثل أولئك الأشخاص وتلك الأفعال حتى قبل عام 2003. لقد ساعد ذلك مثل هذه المجموعة المتطرفة في بسط نفوذها على المدينة وإحتلالها.

– كيف لك أن تصف مشاعر سكان الموصل اليوم؟

يلجأ العديد منهم اليوم لخلق عوالمهم الخاصة ليعيشوا فيها، عالم في الشارع يختلف عن ذلك الموجود في منازلهم. إنهم لا يستطيعون الوثوق بأي شخص، بل ولا حتى بأفراد أسرهم في بعض الحالات. هنالك دولة خوف، تماما كما كان في عهد صدام حسين. الناس ينظرون إلى داعش على أنها كيان وحشي ومروع يفرض قوانين قاسية، لكنه يوفر الخدمات التي يحتاج الناس إليها. إنهم يحاولون التوفيق بين هذين الأمرين. ولكنني أخشى ألا يكون بمقدور الناس الإستمرار في القيام بذلك لفترة طويلة، وأنهم سيستلمون في غضون خمسة أشهر للحكم الشمولي في ظل داعش.

– كيف تغيرت الحياة في المدينة؟

لقد تغير كل شيء. لقد تم فرض الفصل بين الجنسين في كل مكان، وإضطرت النساء لتغطية وجوههن، فيما توجب على الرجال إطلاق لحاهم. هنالك موجة من التطرف في صفوف الأطفال الصغار، والأهل غير قادرين على فعل أي شيء لوقف ذلك. الشباب يتعلمون أيديولوجيا متطرفة تفوق في تشددها النموذج الموجود حاليا. ولكن وفي وسط هذا الصعود للتطرف، هنالك إرتفاع مضاد وخفي للإلحاد. لقد بدأ الناس بطرح أسئلة من قبيل، “هل الله راضٍ عن كل هذا القتل؟” أو “هل الإسلام هو المشكلة؟” وقد إستنتج البعض بأن الإلحاد هو السبيل الوحيد لتحرير المدينة.

– بإعتقادك، ما هي الأسباب التي تمكن داعش من تجنيد الكثير من الغربيّين؟

إنهم يستخدمون الصراع الحالي كإسلوب دعائي “بروباغاندا”، مدعين بأن كل هذه البلدان ضدهم. إنهم يستخدمون أشرطة فيديو تظهر الإعدامات المروعة لسببين: الأول، هو لترويع الناس الذين قد يرغبون في قتالهم. والثاني، هو جذب الأجانب الذين يحبون المغامرات. لأن أشرطة الفيديو الهوليوودية هذه تجعل بعض الناس شغوفين في أن يكونوا جزءا من هذه المغامرات. تنظيم داعش يعرف كل شيء عن علم النفس.

– كيف تقرأ داعش التاريخ؟ ولماذا يصمم التنظيم على تدمير تراث المدينة؟

داعش تعتبر التاريخ إسلاميا فقط، ولا تكترث بأي شيء سبق ظهور الإسلام. إنهم يحاولون إعادة بناء المدينة وفقا لتصورهم، وإزالة كل قديم ضروري بالنسبة لهم من أجل بناء هوية جديدة. لقد أحرقوا جميع نسخ موسوعة الموصل الحضارية الموجودة في جميع المكتبات العامة. وهذا جزء من طريقتهم في محو تراث المدينة وهويتها.

– كيف يبدو النظام التعليمي الآن؟

لقد قام تنظيم داعش بتغيير جميع المناهج، وطبع كتبه المتطرفة الخاصة به. والشخص المشرف على المناهج الجديدة مؤرخ من جامعة الموصل. وقامت داعش بإلغاء كليات الآداب، والفنون الجميلة، والعلوم السياسية، والقانون. ويضطر الأطفال لإرتداء الزي الأفغاني، ولم تعد المدارس سوى أماكن لإعداد مقاتلين جدد لتنظيم داعش، لأنهم يركزون على التدريب العسكري أكثر من التعليم. هذا أمر شديد الخطورة. الكثير من الأسر عازفة عن إرسال أطفالها إلى المدرسة خوفا من أن يصبحوا متطرفين. كما إن العديد من الأطفال الأيزيديين والتركمان الشيعة المختطفين، فضلا عن الأطفال في دور الأيتام، يجري تحويلهم إلى متطرّفين.

– ما هي الرسالة التي تريد إيصالها للعراقيين والمجتمع الدولي؟

أريد من العراقيين ألا يعمّموا، وأن يستمعوا للحقائق، ويواجهون الواقع من أجل إيجاد حل. يجب ألا يعتبروا جميع سكان المدينة أعداءهم، لأن هذا في واقع الأمر وسيلة لمساعدة داعش. كما أن المجتمع الدولي أيضا بحاجة لمعرفة الحقائق، لأن الصورة التي تصلهم عن الموصل ليست دقيقة. وأريد من أهالي الموصل أن يدركوا، قبل غيرهم، بأن الحياة تستحق أن تعاش، والمستقبل يستحق أن يتمّ إكتشافه لما هو عليه، لأن الحياة أكبر من أن نضيّعها فقط في معرفة الله أو القتال من أجله. إذا كان هنالك إله، فإنه لا يريد منكم أن تقتلوا بعضكم البعض من أجله، وإذا لم يكن هنالك إله، عندها ستكونون قد ضيعتم على أنفسكم أجمل الأشياء التي يمكن أن نحيا من أجلها في هذه الحياة.

– ما هي الحلول الممكنة، برأيك؟

الأمر صعب، وهو يزداد صعوبة كلما تقدم الزمن. الحلول التي كانت ممكنة في الأمس غير متاحة اليوم. والمشاكل التي سنواجهها في الفترة التي تعقب الإنتهاء من داعش ستكون أكثر صعوبة في الواقع. لدينا جيشٌ خفي الآن، أولئك المراهقين الذين يحملون رؤية متطرّفة تفوق التصوّر. من أجل أن نضع حدا لداعش، نحن بحاجة للقضاء على التنظيم في كل مكان، في العراق وسوريا، وفي كل مكان.

– كيف ترى المستقبل؟

ليس من الصعب التنبؤ بالمستقبل بعد الآن. العالم على أعتاب تغير كبير، وتحول في المباديء الإنسانية. في المستقبل القريب، سنشهد حروبا مستمرة بين مختلف الفئات الإجتماعية في منطقة الشرق الأوسط. وسينتشر التطرف بسهولة أكبر مما كان عليه في أي وقتٍ مضى. وفي إنتظار أطفالنا مستقبل قاتم. لقد أصبح الأطفال المصدر الأهم لتنامي التطرف في المنطقة. اليوم، تمتلك داعش متطوعين من الشباب الذين تلقوا تدريبا دينيا وعسكرياً صارما من شأنه أن يحولهم إلى وحوش في المستقبل. لا أستطيع مشاهدة هذا العالم يتداعى. والشيء الأكثر إحباطا هو رؤية كل شيء واضحا وصريحا أمام أعيننا. أتمنى لو كان في إمكاني تتبع مسيرة إنتقال البشرية من الهمجية إلى الحضارة، ولكن للأسف، هأنذا الآن أتتبع إنتقالها من الحضارة إلى الهمجية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى