مقالات رأي

نداء لحماية وإعادة بناء التعليم العالي العربي

وجد التعليم العالي في العالم العربي نفسه وعلى نحو متزايد محاصراً في خضم الصراعات الإقليمية المستشرية. ومما يفاقم التداعيات الخطيرة، التي ألحقتها الصراعات الإقليمية بالتعليم العالي، الفشل في تقدير الدور الإستراتيجي لهذا القطاع في تحقيق الإستقرار وتعزيز تعافي المجتمعات والدول التي مزقتها الحروب. ويبدو هذا الوضع مقلقاً للغاية.

في بيان موجز للسياسة صدر مؤخراً عن مركز بروكنجز في الدوحة، “أهمية بيوت الحكمة: مسؤولية حماية التعليم العالي وإعادة بنائه في العالم العربي”، ناقشنا كون التعليم العالي، إذا ما تم دعمه بشكل مناسب، سيكون بمثابة عامل محفز لتعافي الدول التي مزقتها الحروب في العالم العربي، ليس من خلال توفيره للمهارات والمعارف اللازمة لإعادة بناء البنى التحتية المادية والإقتصادية المدمرة فحسب، بل ومن خلال دعم التعليم لإستعادة الحكم المنهار وتعزيز التماسك الإجتماعي أيضاً.

ساهم العالم العربي في إيجاد بعض من أقدم مؤسسات التعليم العالي في العالم، مثل جامعة الزيتونة في تونس، والقرويين في مدينة فاس، واللتين تأسستا قبل قرون من جامعة بولونيا، الجامعة الأوروبية الأولى. وما أن تخلصت المنطقة أخيراً من ظلال الهيمنة الإمبريالية العثمانية والغربية، أصبحت الجامعات حجر الزاوية في مشاريع دول الشرق الأوسط لحقبة ما بعد الإستعمار. فسعت الأنظمة كنظام عبد الناصر في مصر لإنتاج الخريجين المتعلمين جيداً ليكونوا كوادر تعمل في مرافق الدولة المؤسسة حديثاً. وفي لبنان، وسوريا، والعراق، وأماكن أخرى، ساعدت الجامعات في تطوير أيديولوجيات قوية وحركات سياسية، مثل القومية العربية، والإشتراكية، والإسلام السياسي، من خلال توفير مساحة سياسية لمناقشة الأفكار الجديدة، وتوفير القيادة الفكرية للمجتمع المدني.

على مدى السنوات القليلة الماضية، وجد التعليم العالي في جميع أنحاء العالم العربي نفسه وعلى نحو متزايد في حالة يرثى لها. إذ  تسببت الزيادة السريعة في أعداد الطلاب في جميع أنحاء المنطقة منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر والمقترنة بإستثمار غير كاف في البنى التحتية، بإنتاج فصول دراسية مكتظة بالطلاب وتعاني من نقص في الكادر التعليمي، والجامعات التي تنتج خريجين غير مؤهلين لمواجهة واقع سوق العمل في المنطقة. وعلى الرغم من بعض الجهود الساعية للإصلاح على نطاق واسع، لاسيما في الدول العربية الأكثر ثراءاً والتي تمتلك عائدات نفط كإحتياطي، إلا إن الإنفتاح السياسي الذي قدمه الربيع العربي وحده الذي ولد تفاؤلاً حقيقياً بمستقبل أكثر إشراقا للتعليم العالي العربي. ومع ذلك، فقد تبدد هذا التفاؤل الآن، مع وقوع مؤسسات التعليم العالي في مرمى نيران الإضطرابات الإجتماعية والحروب الأهلية على حد سواء. إذ شهدت المنطقة عمليات قمع مميتة طالت الطلاب المصريين المتظاهرين، وقصف لحرم الجامعات في سوريا وقطاع غزة، وإغلاقاً لبعض المؤسسات في اليمن، وليبيا، والعراق.

للأسف، غالباً ما تكون هذه المؤسسات ضحية منسية لهذه الحروب، مع إعطاء ردود الفعل الدولية على هذه الصراعات الأولوية للمساعدات الإنسانية العاجلة أوالتعليم الإبتدائي. إن قائمة المؤسسات المتضررة طويلة، وتشمل: قصف الجامعة الإسلامية في قطاع غزة من قبل القوات الإسرائيلية في عام 2008، ومرة أخرى في عام 2014؛ ونهب العديد من الجامعات الليبية أثناء المعارك في عام 2011؛ والهجمات المعيقة التي طالت المنشأت الجامعية، والكليات والطلاب في جامعتي الموصل وتكريت في العراق؛ والدمار الذي لحق بجامعة الإيمان في صنعاء، وجامعة الحُديدة في جنوب اليمن على يد قوات الحوثي والضربات الجوية التي تقودها السعودية، على التوالي.

ويشكل هذا الدمار تحدياً بالغ الأهمية بالنسبة لصناع السياسات المعنيين بمسألة إعادة إعمار البلدان المتضررة من الصراع في الشرق الأوسط. حيث تساهم الجامعات في تثقيف، وتدريب، وتوفير الملاذ في الغالب للشباب في الفئة العمرية بين 18 و25 عاما، الفئة الحيوية والمتضخمة في المنطقة. ولهذا فإن حماية هذه المؤسسات في أوقات النزاع أمر حيوي. ومهما كانت المشاكل التي تعاني منها مؤسسات التعليم العالي العربية، فإنها تمثل مخزناً هائلاً لرأس المال البشري، والمحاولة الأفضل لتنشيط الإقتصاد الإقليمي الذي يُعرف الآن بكونه يتخلف أكثر من كونه يتقدم.

من الخطوات الرئيسية التي يمكن إتخاذها لحماية التعليم العالي العربي على المدى القصير، الإعتراف بقابلية الصمود للأوساط الأكاديمية. كما يمكن لتوفير حماية قانونية أقوى ووجود روابط مؤسساتية أكبر، على شكل شبكة تضامن بين المؤسسات في العالم، أن تحسن من المرونة الدولية للشبكات الأكاديمية، وتردع أية محاولة لإستهداف هذه المؤسسات. وبالمثل، يتوجب على التدابير الأمنية أن تهدف لحماية البنى التحتية المادية للجامعات، على الرغم من أن مثل هذه التدابير ينبغي أن تتجنب خلق قلاع أكاديمية منعزلة عن المجتمعات المحيطة بها. كما تجري أيضاً بعض الجهود لإنقاذ بعض الباحثين المعرضين للخطر ممن يعتبرون من ألمع العقول التي أنتجتها المنطقة، مؤقتاً، من خلال إبعادهم عن مناطق الخطر لفترة زمنية محددة. لكن، ومن أجل أن تقوم مبادرات الإنقاذ هذه بحماية وتعزيز عدد كبير من الباحثين، فإن الوقت قد حان لإيجاد هيكل إقليمي بحق للحماية بإمكانه تعبئة الفاعلين الرئيسيين ومصادر التمويل.

مع ذلك، فإن الحماية لوحدها ليست كافية. حيث يتوجب على التعليم العالي أن يصبح جزءاً لا يتجزأ من الجهود الرامية لحل النزاعات وإعادة بناء المجتمعات الممزقة. وكما هو مُلاحظ، يوفر التعليم العالي مكاناً فكرياً ومادياً في الغالب – للفئات الشابة من السكان في المنطقة والذين يكونون في الغالب عرضة للتضليل أو الإنجرار نحو التطرف. يوفر التعليم وسيلة سلمية للشباب للتعبير عن إحباطاتهم بصورة عمل مثمر، على الساحة المحلية والوطنية. كما توفر الجامعات ساحة طبيعية للجهود المبذولة لتعزيز المصالحة والتماسك الإجتماعي في البلدان التي تعاني من تركات عقود من الإنقسام، والصراع، والتشرذم.

بالإضافة إلى ذلك، فإنه حتى إذا ما كان بالإمكان التوصل إلى حلول سياسية للصراعات الشائكة التي تواجهها المنطقة، فإن دول مثل اليمن، وسوريا، والعراق، وليبيا ستواجه مهمة شاقة لتعويض سنوات أو حتى عقود ضائعة من التنمية. وسيتوجب عليهم توفير وظائف وفرص جديدة حتى في الوقت الذي سيحاولون فيه إستعادة البنى التحتية القديمة المدمرة. لذلك سيحتاجون لخريجين مؤهلين لقيادة جهود عمليات إعادة الإعمار والتنمية، عوضا عن رؤية تلك الفرص تستنزف على أيدي دول الجوار أو وافدين من الدول المانحة.

على المدى البعيد، سيمثل الإستثمار في التعليم العالي في عموم أنحاء الشرق الأوسط فرصة للتحول. وفي حين أن الهدف الطموح المتمثل في خلق إقتصاديات معرفة مزدهرة في البلدان التي أنهكتها الصراعات في المنطقة قد يبدو مثالياً، إلا إن الجامعات ذات الجودة العالية تستطيع ويجب أن تبرز كحاضنات لإنتاج وتسويق البحوث المبتكرة التي من شأنها أن تحفز توفير فرص عمل ماهرة، وتدعم التنويع، وتوقف هجرة الأدمغة الأكثر تميزاً. وعلاوة على ذلك، فإن خلق بنية تحتية معرفية مملوكة إقليمياً سيكون حيوياً لإيجاد الحلول الإقليمية للتحديات التنموية المعقدة والمترابطة.

أخيراً، لابد من الإعتراف بأن حماية وإعادة بناء التعليم العالي في العالم العربي يجب أن يتحقق عبر نظام دعم عالمي وإقليمي في الوقت نفسه. فعلى المستوى الإقليمي، يمكن للتعاون بين مؤسسات التعليم العالي وتحشيد الموارد لمعالجة تداعيات الصراع أن تقدم حبل نجاة لا يقدر بثمن للجمعيات والكليات المتضررة في وقت الحاجة. وعلى الصعيد العالمي، فإن لدى مؤسسات التعليم العالي القدرة، إذا ما عملت بشكلٍ جماعي، للمساهمة في الحفاظ على التعليم العالي العربي وإعادة بناء تعليم عال ذو جودة عالية وقادر على قيادة عملية الإنتقال من مرحلة الصراع الذي طال أمده إلى مرحلة السلام المستدام.

وبهدف إنبثاق مثل هذه البنية العالمية، تم عقد ميثاق يورك في جامعة يورك في الـ17 من شهر تموز/يوليو 2015. (إقرأ أيضاً:”في أعقاب الحروب، ماهو مصير الجامعات؟) وشاركت في الإجتماع العالمي شخصيات رئيسية منخرطة في موضوع حماية وإعادة بناء التعليم العالي. وتألف الحضور من قادة تعليم عالٍ سابقيين وحاليين من المجتمعات المتأثرة بالصراعات بما في ذلك ليبيريا، وكردستان العراق، وكينيا، والأردن فضلا عن أكاديميين ومسؤولين من مؤسسات التعليم العالي في أوروبا، وأميركا الشمالية، وأفريقيا، وآسيا. إنخرط المشاركون في الحوار وتوصلوا إلى توافق واسع حول مواد ميثاق يورك، وهي مجموعة من المباديء الأساسية توضح مسؤولية المجتمع الدولي في حماية وإعادة بناء التعليم العالي في أثناء وفي أعقاب الصراع.

نحن نأمل في أن يوجد ميثاق يورك معاييراً عالمية من شأنها أن تساعد في ربط التعليم العالي في العالم العربي بشبكة دولية من الدعم المتبادل.

* سلطان بركات، مدير الأبحاث في مركز بروكنجز الدوحة، وزميل سابق في معهد بروكنجز، ورئيس مجلس الإدارة والمدير المؤسس لوحدة إعادة الإعمار والتنمية بعد الحرب بجامعة يورك.

* سانسوم ميلتون، زميل باحث في وحدة إعادة الإعمار والتنمية بعد الحرب بجامعة يورك.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى