مقالات رأي

الجذور العميقة للتطرف في التعليم المصري

أعلنت وزارة التربية والتعليم منذ بضعة أشهر عن تعديلات في المناهج الدراسية بهدف تطهيرها من الموضوعات التي يمكن أن تغذي التطرف والعنف. وتم بالفعل حذف بعض النصوص القصيرة، دون إجراء أية تغييرات حقيقية في نوع الروايات والموضوعات  المقررة على الطلاب. وعلى الرغم من تشكيل لجنة رفيعة المستوى لإصلاح المناهج، لكن الدلائل تشير إلى أن دورها أقرب للدور الإشرافي على عمل نفس الأشخاص والآليات التي أدت الى الوضع الحالي. لذا لم يكن غريباً أن نرى نقداً مريراً لمناهج التربية الإسلامية الجديدة لهذا العام لاحتوائها على “رؤى داعشية“.

ولكن هل ينبع التطرف من الكتب المدرسية فقط أم أنه سمة عامة سيطرت على التعليم بمناهجه وأنشطته وجمعياته الأهلية ومدارسه الخاصة؟ وهل يتصل فقط بأشخاص وجماعات بعينها أم هو نتيجة مباشرة للسياسات التي تبنتها الدولة؟

من المؤكد أن هناك جماعات تسعى بطريقة منظمة للسيطرة على التعليم، وقد ظهر ذلك جلياً عندما تم الكشف في الشهر الماضي عن تفاصيل آخر مخطط إخواني للسيطرة على التعليم. ووفقاً لهذا المخطط، يتم التركيز على الإذاعة المدرسية بتدريب مجموعة من الطلاب والكوادر الإخوانية من المعلمين للاشتراك فيها. فضلاً عن استغلال التأكيد المستمر على أهمية أداء صلاة الظهر في مصلى المدرسة في استقطاب الطلاب وقت الصلاة. ويتضمن المخطط إمداد الطلاب بالملازم والملخصات وإعطائهم دروساً خصوصية مجانية. هذا إلى جانب التسابق على تغطية الحصص الاحتياطية واستغلالها للتأثير على الطلاب. أما آخر وربما أهم المحاور فيدور حول السيطرة على الحضانات الخاصة والحضانات التابعة للجمعيات الأهلية.

وبينما تعكس هذه التفاصيل نشاط الجماعات الإسلامية المختلفة في المدارس على مضى عشرات السنين الماضية،  فإن هذا التأثير لم يكن ممكناً إلا في إطار سياسات محددة اتبعتها الدولة منذ السبعينيات. فقد ظن السادات ومن بعده مبارك أن منح تيارات الإسلام السياسي بأطيافه المختلفة مزيداً من النفوذ من شأنه أن يعزز حكمهما بل ويرفع عن كاهل الدولة عبء الإنفاق على الخدمات. إلا أن ذلك فشل في تحصين أي منهما ضد الاغتيال أو الثورة وأدي إلي انهيار تام في مرافق الدولة وفي جودة التعليم في مصر. فتحت ستار تشجيع القطاع الخاص وترشيد الإنفاق، تم تدمير مؤسسات الدولة وأهمهما المدارس ليترك الأطفال تحت رحمة الجمعيات الدينية في ظل تعليم حكومي مهترئ.

ومع سياسات الانفتاح، أصبح “العلم والإيمان” هما أساس تقدم ونهضة مصر. ومثل ذلك ابتعاداً واضحاً عن خطاب العهد السابق الذي ركز على العدالة الاجتماعية وتحقيق النهضة من خلال محاربة الفقر وتوفير فرص العمل والتعليم للجميع، والذي حظي بشعبية واسعة في ظل استثمارات ضخمة في التعليم والصحة والنقل والبنى التحتية. وللقضاء على هذه الشعبية والتأسيس لشرعية جديدة، لجأ السادات إلى تشجيع تيار الإسلام السياسي والتأكيد على أنه الرئيس المؤمن الذي يعدل الدستور ليجعل الشريعة المصدر الأساسي للتشريع. وقام بالإفراج عن أعضاء الجماعات الإسلامية من السجون وتمكينهم من التأثير على التعليم والجمعيات الأهلية. وشمل ذلك السيطرة على الجامعات والمدن الجامعية، خاصة في محافظات الصعيد مع زيادة نسب التحاقهم بكليات التربية.

ولقصر عهد السادات الذي تم اغتياله من قبل هذه الجماعات، لم تظهر آثار هذه السياسات جلياً إلا في عهد مبارك حيث شهد النظام التعليمي انخفاضاً حاداً في الجودة وتكافؤ الفرص وظهرت آثار النفوذ الواسع لفكر الجماعات الإسلامية. وقد أدى تراجع الاستثمار في قطاع التعليم إلى انخفاض شديد في جودته ومن ثم انتشار المدارس الخاصة وتفشي ظاهرة الدروس الخصوصية. ولم تؤد الدروس الخصوصية إلى التهام جانب كبير من دخل الأسر فحسب، بل إنها فتحت الباب على مصراعيه أمام الجمعيات الدينية لتقوم هي بتوفير التعليم أو تقديم مساعدات مباشرة لأولياء الأمور لتحمل تكاليفه. هذا بالإضافة إلى التنامي السريع للمدارس الإسلامية الخاصة بمناهجها وأنشطتها الإسلامية الإضافية. كما تركت الدولة مرحلة الطفولة المبكرة للجمعيات الأهلية، والتي تدار في معظم أنحاء البلاد من قبل جمعيات دينية لا تمارس الوزارة رقابة حقيقة على الأفكار التي تنشرها بين الأطفال الصغار. وكما رأينا في البداية، فإن هذه كلها كانت من محاور استراتيجية الإخوان التعليمية.

ومن أبرز سمات سيطرة التيارات المتطرفة على المدارس الحكومية في عهد مبارك، استبدال النشيد الوطني بأناشيد دينية في عديد من المدارس. بل وقد أشار أحد التقارير منذ بضعة أسابيع فقط، أن الطلاب في إحدى المدارس في قلب القاهرة، لا يرددون سوى عبارة واحدة في طابور الصباح هي: “لا إله إلا الله” دون أداء تحية العلم أو النشيد الوطني. وبوجه عام فقد أصبحت الأنشطة في المدارس المصرية تدور بشكل أساسي في فلك الموضوعات الإسلامية، مثل مسابقات تلاوة وتحفيظ القرآن وأصبحت برامج الإذاعة المدرسية تنحصر في محتوى ديني ذي توجه معين. كما ساد أيضاً خلال عهد مبارك الضغط على الطالبات والمعلمات لارتداء الحجاب وإلغاء حصص التربية الرياضية للبنات. ومن ثم أصبحت الأنشطة الثقافية والفنية والموسيقية غائبة عن المدارس. وأصبحت المدارس الحكومية العالية الجودة والمليئة بالأنشطة التي شهدتها الأجيال السابقة مجرد ذكرى.

وتزامن ذلك مع تغير واضح في توجه الكتب المدرسية، والتي أصبحت تدور بشكل كبير حول رؤية بعينها للإسلام كمرجعية سياسة أساسية مع تجاهل أية مرجعيات أخرى. فحتى حب الوطن يقدم على أنه قيمة يحض عليها الإسلام وكذلك الديموقراطية ومبادئها. كما أن الحديث عن القيم الإنسانية وقيم العمل والأسرة وكذلك العلم والطب والصناعة يدور في إطار فروض الكفاية على المسلمين. وكذلك العدل فهو ليس مبنيا على القانون أو الدستور أو حقوق الأفراد ولكنه ينبع أساسا من الإسلام والحكم بما أمر الله. وبناء على تفاصيل المخطط الإخواني، فإن هذا الحرص على التأكيد على المرجعية الإسلامية يعد مدخلاً أساسياً للجماعة لممارسة تأثيرها واستقطاب الطلاب.

ولا ينحصر هذا المحتوى في كتب التربية الدينية فقط بل يسود مناهج اللغة العربية بالذات، بالإضافة إلى التربية الوطنية والتاريخ. ومن الأمثلة على ذلك رواية “وإسلاماه” المقررة على طلاب الثانوية العامة طوال عهد مبارك وإلى الآن، والتي ألفها علي أحمد باكثير المعروف بصلته بجماعة الإخوان المسلمين. ومن ثم كان من الطبيعي أن تعكس الرواية فكرة الإسلام السياسي الرئيسية وهي أن البعد عن الإسلام (مع تعريف الإسلام في الأساس على أنه تمسك  بأداء الشعائر والطقوس الدينية) قد أدى إلى الضعف والاحتلال الأجنبي، في حين أن “العودة إلى الإسلام” تنقذ الوطن من الانهيار.

وقد يرى صناع القرار التعليمي أن روايات مثل عُقبة بن نافع وواإسلاماه جديرة بتدريسها للشباب على مدى عشرات الأعوام، ولكن الأدب المصري والعربي ملئ بالإبداعات التي يمكن من خلالها تجديد المناهج وإعادة التوازن إليها لكي لا تستند إلى مرجعية واحدة أو تدور فقط حول الفتوحات والجهاد. إلا أن الخطر الحقيقي على أية حال يكمن في تدريس المواد التعليمية أي كانت من خلال معلمين متشبعين بالفكر الوهابي المتشدد.

ولم يكن النظام غافلاً تماماً عن تأثير الجماعات المتشددة، فبعد موجة الهجمات الإرهابية في مطلع التسعينيات، تم اتخاذ إجراءات تهدف إلى تخفيف قبضة المتطرفين على المؤسسات التعليمية، وتم نقل آلاف المعلمين المتهمين بالتطرف إلى وظائف إدارية ومناطق نائية. ولكن للأسف، لم تصاحب هذه التدابير الأمنية تغييرات حقيقية في توجه الكتب أو الأنشطة المدرسية، ولا يعقل أن يكون الحل هو نقل المتطرفين إلى المناطق المهمشة ليمارسوا فيها نشاطهم.

في مطلع القرن الحالي، شجع النظام مرة أخرى خطاباً دينياً من نوع مختلف يرى أن نهضة المسلمين لن تتحقق إلا من خلال الالتزام بالأخلاق والعفة والتبرع بالصدقات وتأدية العبادات وريادة المشروعات الخاصة. وتخلى هذا الخطاب عن التأكيد على أي دور للدولة، سواء في “تطبيق الشريعة” أو في ضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد استخدم النظام ذلك كغطاء لتخلي الدولة عن مسؤولياتها، خاصة فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية. ونرى مثالاً لذلك في كتاب التربية الوطنية لعام 2009، الذي يعكس خطاب الحزب الوطني المنحل، الذي يري أنه من غير المجدي الاعتماد على الدولة في حل مشاكل البلاد وأن “الأمل في إحداث نهضة حقيقية” يعتمد على إحياء المؤسسات والجمعيات الخيرية التي تقدم الخدمات للمواطنين. وينص نفس الكتاب على أن أهم سمات “المواطن الصالح” هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتمسك بتعاليم الدين، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهنا يسعنا القول بأن مستوى التبرعات الخيرية وكافة مظاهر الالتزام الديني لدى المصريين قد زادت بالفعل في عهد مبارك، إلا أن أوضاع البلاد لم تزدد إلا سوءاً.

وبعد أن ثار المصريون على هذه الأوضاع، فالأمل في تحقيق أية تقدم يتمثل في تبنى سياسات اقتصادية واجتماعية سليمة، ومن أهمها العمل على إحداث إصلاح حقيقي للتعليم الحكومي بهدف الارتقاء بجودته وتطوير فعال لمناهجه وإعادة الحيوية للأنشطة المدرسية وتقليص اعتماد الطلبة على الجمعيات الدينية المتشددة.

*هانية صبحي باحثة  متخصصة في مجال تطوير التعليم.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى