أخبار وتقارير

باحثون تشيكيون يوثقون دمار تراث الموصل

يعمل فريق من العلماء التشيكيين على مشروع أطلقوا عليه إسم “آثار الموصل في خطر” بهدف توثيق المواقع الأثرية في الموصل، التي دمرها تنظيم داعش منذ إحتلال هذه المجموعة الإرهابية للمدينة في حزيران/ يونيو عام 2014. وبدعم من معهد الإستشراق التابع لأكاديمية العلوم التشيكية في براغ، يسعى الفريق للحفاظ على تسجيل للآثار للأجيال القادمة بعد  قيام تنظيم الدولة الإسلامية بنشر أشرطة فيديو على الإنترنت تُظهر مسلحيه المتطرفين وهم يقدمون على تحطيم الآثار والتماثيل في متحف الموصل ومدينة الحضر قبل عام.

يعتبر إهتمام الفريق بدراسة الموصل إستمراراً طبيعياً لمشروعهم البحثي الآخر عن المشهد الحضري في شمال شرق ما بين النهرين في القرون الوسطى، لكن إستيلاء تنظيم داعش على المدينة وموقفه الهمجي تجاه التراث ساهم في تسريع إجراء أبحاثهم عن الموصل، بحسب ميروسلاف ميلتشاك، المؤرخ في معهد الإستشراق والمختص في التاريخ الثقافي والإجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى.

قال ميلتشاك “لقد كان تخريب المدينة سريعاً جداً، وواصلت التقارير الإعلامية نقل أخبار رهيبة عن مدى الدمار.” وهكذا بدأ الباحثون بإستخدام صور الأقمار الصناعية لتوثيق المعالم الأثرية المدمّرة.

لطالما كانت الموصل ملتقى للحضارات، ففي العصور الإسلامية والعثمانية، كانت المدينة بمثابة نقطة إلتقاء للعرب، والأكراد، والتركمان، والآشوريين، والأرمن، والمسلمين السنة والشيعة، والمسيحيين، واليهود، والأيزيديين، والشبك.

قال كارل نوفاتشيك، عالم الآثار ومؤرخ العمارة بجامعة بالاتسكي في مدينة أولوموتس، “لقد عاشت كل هذه الشعوب معاً بسلام معظم الوقت، وقد خلق هذا جواً فريداً من تعدد الثقافات والذي يمكنك أن تراه في الهندسة المعمارية للمدينة.”

وأضاف نوفاتشيك “حتى مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، تطورت أشكال معمارية متميّزة لم تكن مرتبطة من قبل لتشكل مجموعة ثقافية واحدة. وبينما توجد أمثلة أخرى عن هذا المزيج الثقافي في مدن في العراق والشرق الأدنى، إلا إن الموصل إستثنائية من حيث كثافة وطول إمتداد هذا التبادل الثقافي.”

تجعل دراسة الباحثين لتاريخ الهندسة المعمارية للمدينة بشكلٍ نادر من التوثيق الحالي أكثر إلحاحاً. قال ميلتشاك “إن المسح المنهجي الأول والوحيد للمعالم الأثرية في الموصل من قبل باحث غربي هو ذلك الذي أجراه عالم الآثار الألماني إرنست هرتسفيلد في الفترة بين 1907-1908.” وعلى الرغم من قيام العديد من العلماء العراقيين المتميزين بدراسة تراث المدينة، إلا إن أبحاثهم لا تزال غير معروفة إلى حد كبير في الغرب. أضاف ميلتشاك “أحد أهداف مشروعنا هو إطلاع العلماء الغربيين عن كثب على بحوث زملائنا العراقيين.”

https://www.bue.edu.eg/

في شباط/ فبراير، أصدر الفريق خريطة تفاعلية عن المعالم التي يعرفون بأنها قد تعرضت للتدمير. تضم الخريطة وصلات للمحات عن المعالم الأثرية كل على إنفراد، بما في ذلك صورا ملتقطة عبر الأقمار الصناعية تظهر الدمار الذي لحق بها. ويبدو أن حجم الدمار واسع النطاق.

قال ميلتشاك “لقد وجدنا بأن 38 معلماً قد تعرضت للتدمير أو تمت تسويتها بالأرض تماماً. في بعض الحالات، تمت إزالة الأنقاض وتم تعبيد المساحات الفارغة بهدف إستخدامها كمواقف للسيارات.” تمكن العلماء من تحديد 33 من أصل 38 معلم أثري، إثنين من هذه المعالم مسيحية، بما في ذلك كنيسة أرثوذكسية ودير مدمر جزئياً. فيما تضم المباني الإسلامية المدمرة مساجد، وأضرحة، ومدارس دينية، وقبور.

قال نوفاتشيك إن تدمير قبرين، يعود تاريخهما لعهد حاكم الموصل بدر الدين لؤلؤ (المتوفي عام 1259 للميلاد)، من بين الخسائر الأكثر فداحة. كما أن مبان إسلامية أقدم، تعود بتاريخها للنصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي، والتي تمثل أقدم طبقة محفوظة بشكل جيد عن عمارة تراث الموصل، قد تم تفجيرها وتسويتها بالأرض، بحسب نوفاتشيك.

تشير التقارير الواردة من داخل المدينة لتعرض العديد من المعالم الأخرى للنهب أو الإحراق، لكن هذه الأضرار لا تظهر دائماً في صور الأقمار الصناعية لأن الهيكل الخارجي لهذه المباني لا يزال متماسكاً. وقد ذكرت تقارير إخبارية وشهود عيان بأن هذا مصير العديد من الكنائس والأديرة، بحسب ميلتشاك، الذي قال إن هذه الروايات “متناقضة جداً لدرجة يصعب معها تقييم حالتها الفعلية، لكننا نحاول التحقق من صحتها.”

تعمل لينكا ستاركوفا، عالمة الآثار المتخصصة في مجال الإستشعار عن بعد، من جامعة غرب بوهيميا في بلزن، على تحويل صور الأقمار الصناعية إلى طبقات في قاعدة البيانات التي تخزن المعلومات وفقاً لموقعها الجغرافي. قال نوفاتشيك “بإستخدام هذه الصور، نقوم بمقارنة حالة المعلم العمراني قبل وبعد إستيلاء تنظيم داعش على المدينة. لابد من التحقق من كل المعالم المعروفة سابقاً وكل الأحياء السكنية.”

لحظة تفجير حسينية القبة ( ا ب)

وفضلاً عن رصد الأنشطة التدميرية لتنظيم داعش، فإن الفريق القائم على المشروع يحاول فهم الأسباب التي تقف وراء هذا السلوك، حيث أن رئيس معهد الإستشراق أوندريج بيرانيك مؤرخ مختص في تاريخ الإسلام، لاسيما التفسيرات السلفية والوهابية له. قال بيرانيك “هنالك عاملان رئيسيان على الساحة: عامل ديني وآخر إستراتيجي.” وأضاف “إن الهجمات ضد المعالم العمرانية الإسلامية الجنائزية والمقدسة أمر شائع الحدوث في جميع أنحاء العالم الإسلامي. إنها ليست أعمال تخريب عشوائية، بل تعتبر واجب ديني. حيث أن هذا الواجب – تسوية القبور- ورد ذكره في النصوص والتقاليد الوهابية، وهو ما تستشهد به الحركات السلفية المعاصرة، وتروج له المؤسسة الدينية السعودية.”

قال بيرانيك “فالقبور، والأضرحة، والمساجد التي تضم رفاة الأولياء المتوفين يجب أن تدمر من أجل منع تحويلها إلى أماكن للعبادة، وفقاً لمفاهيمهم. كما أن السبب وراء تدمير التماثيل والمنحوتات ينبع من الخوف من الوثنية.”

وأضاف بيرانيك “أما الهدف الإستراتيجي لهذه الأعمال فهو تدمير الثقافة، والخلفية الحضارية، وكبرياء السكان المحليين وأساسهم الفكري. لقد أثبت هذا النهج القاسي تجاه التراث الثقافي في الماضي كونه أداة قوية للغاية في الصراع مع الأشكال المختلفة من الإسلام الشعبي. كما تم إستخدامه أيضا كوسيلة للسيطرة على المجتمعات الإسلامية المحلية في جميع أنحاء العالم. مع ذلك، ففي بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي ذلك لنتائج عكسية تقود المجتمعات المحلية للمقاومة.”

إلى جانب جمع صور الأقمار الصناعية، يعمل الباحثون التشيكيون ما بوسعهم لجمع كافة السجلات التاريخية، والمحفوظات، والأبحاث العلمية المتفرقة بشكل واسع والمتعلقة بالمباني المفقودة. وتتواجد هذه الوثائق بصورةٍ متفرقة على نطاق واسع بين العلماء والمجموعات الخاصة للسكان المحليين. قال نوفاتشيك “إذا ما نجحنا، سنكون قادرين على توفير قاعدة لعمليات ترميم عمرانية مستقبلية.”

تعتبر إعادة بناء المواقع التراثية المفقودة بنفس القيمة التاريخية والفنية التي كانت تمتلكها في السابق أمر مستحيل بالطبع. لذا، سيكون الخيار الوحيد المتبقى هو بناء نسخ طبق الأصل لبعض من أروع قطع العمارة إذا ما أمكن جمع الوثائق الكافية لذلك.

قال ميلتشاك “نأمل أن يرى المزيد من التوثيق لأهم المواقع النور بعد تحرير المدينة. لكنني أكثر تشككاً بشأن المواقع المعمارية المتواضعة والأقل أهمية في المدينة. فبالنسبة لهذه المواقع، من الصعب العثور حتى على توثيق صوري بسيط. مع ذلك، فمع النمذجة ثلاثية الأبعاد، فإن الحصول على نماذجٍ إفتراضية جزئية لبعضٍ من هذه المواقع سيكون ممكناً.” (في جهد منفصل، تحاول مجموعة من المرممين الرقميين تطلق على نفسها إسم مشروع الموصل – وقد أعيد تسميتها مؤخرا بإسم REKREI – خلق ترميمات رقمية للقطع الأثرية التي كانت معروضة فيما مضى في متحف الموصل.)

يعمل فريق الباحثين التشيكيين حالياً بإستخدام ما يتوفر من صور، وأفلام وثائقية، وأوصاف، وصور أقمار صناعية، وصورٍ جوية من أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. كما أنهم يقومون بجمع المعلومات من المواطنين والمقيمين السابقين في الموصل. وقد اكتشفوا صفحات على موقع الفيسبوك مثل مبادرة صفحة عين الموصل “حماية تراث الموصل” والصور التاريخية عن الموصل في مجموعة “الموصل القديمة: صور وذكريات.”

من براغ، أعرب نوفاتشيك عن مخاوفه بشأن الضرر الحتمي الذي سيحدث عندما تحاول القوات العسكرية إستعادة السيطرة على المدينة. قال “نحن على إتصال وثيق مع الهيئة العامة للآثار والتراث في بغداد، في محاولة لتأسيس مبادرة لحماية الثراء المعماري المتبقي ضد التدمير الذي من الممكن أن يحدث أثناء تحرير المدينة.” وأضاف نوفاتشيك “نحن على إستعداد لتقديم جميع ملعوماتنا وخبراتنا للسلطات المسؤولة للمساعدة في إعداد “خطة إنقاذ” لمدينة الموصل.” وذكر بأن الكثير من المواقع التراثية قد تعرضت للتدمير في أثناء إعادة السيطرة على مدن سنجار، وتكريت، والرمادي.”

يُذكر بأن قوات التحالف تضع الموصل نُصب أعينها لتكون المدينة القادمة الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية التي تأمل في إستعادتها. ويأمل الباحثون التشيكيون في نشر دراسة علمية عن آثار الموصل المدمرة. ولربما تتقاطع جهودهم مع تحرير المدينة، لتكون الموصل عندئذ قادرة على البدء في التفكير بإعادة بناء آثارها المفقودة.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى