أخبار وتقارير

بحث في الدور المدني للجامعات العربية

بيروت– من بين الإنتقادات الرئيسية لبعض التحليلات عن ما يُسمى بالربيع العربي هو أنها تركز على سقوط أنظمة النخبة وعبادة الشخصيات ولا تولي إهتماماً كافياً للتغيير المؤسساتي الأوسع والأكثر أهمية في المجتمعات العربية.

ساعد مؤتمر حول “الدور المدني للجامعات العربية” تم عقده في 21 و22 من نيسان/أبريل من قبل الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية (LAES) وبالتعاون مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، في وضع أرضية لتقديم نقد من منظور واقعي. ناقش عدد مذهل من العروض التقديمية والمناقشات الإعتراضية في كثير من الأحيان حالة الخطاب الجامعي العربي بشكل عام، بعيداً عن أي دور مدني محدد إلى حد كبير، إذا ما كان المشاركون قادرين أصلاً على الإتفاق عن ما يعنيه ذلك.

قد تكون قصة نجاح نادرة من لبنان الشيء الأكثر إثارة للإعجاب في المؤتمر، حيث ساهم أساتذة في صياغة مشروع قانون والدفع بتشريعات مكافحة التدخين إلى مجلس النواب اللبناني عام 2011. فما أن علموا بمشروع قانون التدخين الساري و”الذي عفا عليه الزمن”، قالت الأستاذة ريما نقاش إن مجموعة من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت إجتمعت مع السياسيين لتقديم بحث محلي قائم على الأدلة وتشكيل شراكات مع وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني للضغط من أجل التغيير.

في بلد يضم أكبر أعداد المدخنين في المنطقة، وحيث كانت أقسام “غير المدخنين” شبه معدومة، جاء القانون ليحظر التدخين في الأماكن المغلقة في المنشآت العامة والخاصة. وقد شمل تطبيق القانون حملات مداهمة متكررة من قبل قوة شرطة مخصصة لهذا الغرض بالإمكان إستدعاؤها عن طريق الخط الساخن المخصص للمواطنين. لكن، وعلى الرغم من إعتبار القانون ناجحاً في بدايته، إلا أن التدخين في الأماكن المغلقة، وبعد خمس سنوات من إصداره، قد عاد من جديد. تقر نقاش بأن تنفيذ القانون لم يدم طويلاً، فبعد بضعة أشهر فقط من صدور القانون، قررت الحكومة السماح بالتدخين في ليلة رأس السنة الجديدة من جديد مع فكرة أن التراخي في تطبيق القانون من شأنه أن يساعد الشركات. وقالت نقاش “من الواضح، أننا كأكاديميين نعارض جداراً لأننا لسنا المنفذين.”

مع ذلك، فقد بقي العديد من المتحدثين الآخرين بعيدين عن دراسات حالة العمل المدني المحدد لصالح إعطاء المزيد من الوقت للتحليل كجزء من مشروع تديره الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية عن “الدور المدني للجامعات العربية”. وبالإعتماد إلى حد كبير على المواقع الإلكترونية للجامعات، والخطابات، ومواد المساقات، فضلاً عن إستطلاعات آراء الطلاب وأعضاء هيئات التدريس، أنتج الأكاديميون من مختلف أنحاء المنطقة سلسلة من الرسوم البيانية كشفت عن الإستخدام المنخفض جداً لمصطلحات من قبيل التربية المدنية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والديمقراطية في 36 جامعة عربية. وكانت هذه المصطلحات أقل إستخداماً في المؤسسات الأكاديمية في شمال أفريقيا ودول الخليج، في حين أن دول المشرق العربي  كانت أفضل حالاً بقليل.

وحتى مع وجود الكلمات، فإنها نادراً ما تترجم إلى أفعال، بحسب الباحثين. حيث يتم إلقاء الكثير من الخطابات، لكن نادراً ما يتم تنفيذ الأنشطة المجتمعية. وغالباً ما كانت مراكز التوعية التي تعد بنشاط مدني غير فاعلة، ولا يتم إستخدمها من قبل الطلاب، أو أنها غير موجودة على الإطلاق. فيما تميل الإستثناءات القليلة لتكون في الجامعات الأميركية في بيروت والقاهرة والكويت.

قال عدنان الأمين، مدير مشروع الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، إن “ثقافة القانون يمكن أن تتواجد في 2 في المئة فقط من الخطب في الـ 36 جامعة التي شملها الإستطلاع.” وهذا ما دعا الأمين ليستنتج بأن “ثقافة القانون ضعيفة جداً أو غائبة تماماً.”

لكن بعض المشاركين إتخذوا موقفاً متشنجاً من الإقتراح الذي يقول بأن بإمكان تحليل المحتوى لوحده قياس مدى الإنخراط في الحياة المدنية أو المجتمع، الأمر الذي أثار مناقشات ساخنة حول ما قال البعض بأنها مصطلحات غربية الطراز، وإذا ما كان لإستخدامها أو تكرارها أن يستخدم لتقييم الأداء الإجتماعي للجامعات العربية.

من جلسات المؤتمر (تصوير: حبيب بطاح)

قال الأستاذ فاضل الموسوي “ليس من المستغرب أن تتوفر الجامعات الأميركية على أفضل النتائج. نحن نحاول مناقشة مفهوم عام لم يتم ترسيخه في ثقافتنا العربية. ألن يكون مفيداً أكثر لو قام الباحثون العرب بإيجاد المفاهيم المنبثقة من جامعتنا ومجتمعنا؟”

ناقش الموسوي في عرضه التقديمي كون الطلاب يتمتعون بحرية أقل في الجامعة الأميركية في بيروت عما هو الحال عليه في الجامعة اللبنانية التابعة للحكومة فيما يتعلق بإنتخابات وتنظيمات الطلاب. فإستناداً لإستعراض اللوائح القانونية والمقابلات مع الطلاب، وجد الموسوي بأن طلاب الأحزاب الحكومية في الجامعة الأميركية في بيروت مراقبون بشكل كبير من خلال تواجد أعضاء هيئة التدريس في الإجتماعات، واللوائح الصارمة المفروضة على الإتصالات، والتأثير الضئيل الذي يمكن إحرازه في عملية صنع القرار.

فيما قدمت طالبة الدكتوراه آيات نور الدين لمحة عامة عن الأنشطة الثقافية والدينية التي ينظمها الطلاب في كلية العلوم بالجامعة اللبنانية. وقد شمل ذلك الإحتفال بعيد ميلاد النبي محمد، والسيدة زينب، والإحتفال بحجاب المرأة.

أشعل العرض التقديمي لنور الدين نوبة من المقاومة لفكرة إمكانية إعتبار الأنشطة الدينية ذات طبيعة مدنية. وقال بعض المشاركين في المؤتمر إن هنالك تناقضاً بين الأنشطة المدنية والدينية التي تشمل أتباع الديانة فقط. إحتج أحد الحاضرين قائلا، “إذا ما أردنا أن نتحدث عن الدين، فمن الواجب علينا أن نغير إسم المؤتمر”. فيما إتهم آخرون المجموعات الطلابية بأنها بمثابة وكلاء للأحزاب السياسية اللبنانية المشكلة على أساس طائفي وأشاروا إلى أن هؤلاء الطلاب غالباً ما يهيمنون على أنشطة الحرم الجامعي على حسابات الجماعات المستقلة. ردّت نور الدين على ذلك بالإشارة إلى أن دورها كان يقتصر على المراقبة، حيث قالت “أنا لست هنا لأقول لكم إذا ما كان هذا صحيحاً أم خاطئاً.”

وقال العديد من المحاضرين إن الهياكل الجامعية تعكس طبيعة الحكم السلطوية حيث يشتكي الطلاب في كثير من الأحيان من تبني الأساتذة  للهجة أبوية، ترسخ الحفظ والتلقين ولا تشجع على إستطلاعات آراء الطلاب الناقدة. ففي دراستها عن كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، وجدت الباحثة هالة أبي صالح بأن بعض الطلاب بدوا ساخرين جداً حيث حاولوا إكتشاف الآراء السياسية للأستاذ ليعرفوا “ما يتوجب عليهم كتابته في الإمتحانات”.

وفي جامعة تونس، وجدت الأستاذة روضة بن عثمان بأن الطلاب قد أظهروا إنعدام ثقتهم بالسياسيين و”لهفة في الحصول على ديمقراطية أكاديمية”. لكن الأساتذة أبدوا نظرة سلبية حول أي صوت طلابي جماعي، معتبرين تعبيراً من هذا النوع بمثابة تخريب للمساقات الدراسية و”إغراقاً للجامعة في الوسطية”. إنتقدت عثمان “ثقافة التسلط” التي تنظر للطلاب على إعتبارهم مجرد متلقين للمعرفة و”نتاج نظامٍ” يرفض وجهات النظر “غير الملائمة”. وخلصت إلى أن علاقة جديدة لا بد من أن تُصاغ بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، حيث قالت “يتوجب على الأساتذة البدء بالإستماع لأصوات الطلاب، مهما بدت ساذجة.”

كان عدد من العروض التقديمية أقل دقة، إن لم يكن إستشراقياً إلى حد ما، ليلوم “الثقافة العربية” على إعتبار أنها لا تتفق مع الخطاب المدني. قال خالد صلاح، أستاذ مصري من جامعة الإسكندرية، “في الجامعات العربية، لدينا مشكلة مع حقوق الإنسان وكيفية التعامل معها. حيث يشكك بعض الأساتذة في كونها مستوردة من الغرب ويشككون في الأجندة التي تقف وراءها. نحن بحاجة لتغيير وجهة نظرنا حول حقوق الإنسان … نحن بحاجة للتأكد من ترسيخ هذه الثقافة من الحقوق في المجتمع المصري، من المدارس وحتى المساجد.”

لكن فكرة كون خطاب حقوق الإنسان غائباً عن المؤسسات العربية أو الإسلامية تمت مواجهتها من قبل الأستاذ العراقي إبراهيم البيضاني الذي أشار إلى أن تعاليم الإمام علي بن أبي طالب قد تمت الإشارة إليها بشكل بارز في تقرير الأمم المتحدة عن التنمية العربية لعام 2002 بإعتباره نموذجاً للعدالة الإجتماعية. قال البيضاني “من الشروط الرئيسية لإحترام حقوق الإنسان في المجتمع العثور على هذه الحقوق والمبادئ المتجذرة في الثقافة السائدة.”

لكن الأمين أصر على إعتبار التركيز الديني إشكالية، مشيراً إلى أن الهدف من المؤتمر هو “إحداث إنتقالة من وجهات النظر الأيديولوجية إلى أخرى مدنية.” وما هو غير مدني، كما أوضح، هو الخطاب الديني، والأيديولوجي، والحزبي، والعسكري. وأضاف الأمين “أفترض بأن سيادة القانون لا يمكن تطبيقها من دون شيوع ثقافة القانون، ومن أجل أن تؤمن بالقانون، يتعين على الناس أن يفهموا ماهية القانون للمساهمة في صنع القوانين … لأن القانون ليس إلهياً.”

لكن، وعلى مدى النقاشات الحيوية، واصل المشاركون التحليق حول ضرورة ترسيخ أي بحث في الواقع السياسي والإجتماعي المعقد في المنطقة.

وربما كان من المناسب أن قام الأستاذ الليبي محمد صالح رحيل من جامعة سرت بتقدم العرض الأخير الذي قص فيه رحلته الخطرة نحو بيروت. فبعد رحلة بالسيارة قطع فيها 200 كيلومتراً في الصحراء بإتجاه الحدود المصرية، تم إرجاعه بطلب من ضباط في الجيش الليبي بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة بسبب الإشتباكات. لكن، وبينما كان يقود سيارته عائداً إلى المنزل، قال رحيل إنه تذكر كم كان يود حضور المؤتمر، فأدار سيارته فجأة ليتم توقيفه من قبل قافلة مؤلفة من 50 سيارة تقل أعضاء من تنظيم داعش. قال “سألوني عن وجهتي التي كنت ذاهباً إليها قبل أن يطلقوا سراحي. لقد شعرت وكأنني حصلت على جائزة لكوني قادراً على حضور هذا المؤتمر، فقد كان مجرد الوصول إلى هنا تحقيقاً لحلم.”

بدا عزم رحيل متمثلاً في أن يجلب لوطنه موضوعاً أوسع: فسواء تمكن المشاركون من الإتفاق حول كيفية قياس مدى الإنخراط المدني أم لا، فإنهم مهتمون بما فيه الكفاية للعمل معاً ضد خلافات الإضطراب المعيق بهدف إنتاج مناقشة ضرورية، وحاسمة، ومفعمة بالحيوية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى