أخبار وتقارير

التجربة القطرية في استيراد التعليم العالي

ماذا يحدث عندما تستثمر أغنى دولة في العالم مليارات الدولارات لجلب أفضل الجامعات الغربية بهدف التعليم على أراضيها؟ إن هذه التجربة الطموحة تجري بالفعل في الدولة الخليجية الصغيرة قطر.

فقبل عقدين من الزمن، قررت الإمارة تطوير توفيرها للتعليم العالي من خلال دعوة جامعات النخبة على مستوى العالم لفتح فروع لها هناك. وكانت النتيجة المدينة التعليمية، التي تضم حرم جامعي كبير على مشارف العاصمة الدوحة يضم فروعاً لست جامعات أميركية، فضلاً عن مؤسسة بريطانية وأخرى فرنسية.

منحت صادرات النفط والغاز الطبيعي في قطر مواطنيها أعلى دخل للفرد في العالم – حوالي 140.000 دولار أميركي بحسب إحدى الروايات. وتقوم إحدى المؤسسات التي أسستها العائلة المالكة في البلاد باستخدام ثروة الإمارة لدفع كل فواتير فروع الجامعات مع ضمان الحرية الأكاديمية لها، من حيث المبدأ. وفي المقابل، تلتزم الجامعات الأجنبية بتوفير برامج تعليمية في فروعها بشكل مساو “في الجودة” لتلك الموجودة في بلدانها الأم. وتترأس الشيخة موزة بنت ناصر، والدة حاكم قطر الحالي، مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع.

عندما اقترحت قطر الفكرة لأول مرة، قبل نحو عشر سنوات، على جامعة جورج تاون، المؤسسة اليسوعية الكاثوليكية المرموقة في واشنطن العاصمة، “كان هنالك الكثير من الشك”، بحسب جيرد نونمان، الذي يشغل منصب عميد فرع المؤسسة في الدوحة، وهو الفرع الجامعي الوحيد لجورج تاون خارج البلاد. قال نونمان “لم تكن هنالك مخاطرة مالية، لكن مخاطرة بالإسم التجاري.” فقد كانت جامعة جورج تاون تضع سمعتها على المحك.

فهل سيتمكن الفرع الجامعي من جذب الطلاب القطريين وغيرهم بنفس قدرة الحرم الجامعي الرئيسي؟ وهل سيرغب أعضاء هيئة التدريس المؤهلين في الإنتقال إلى هناك، وهل سيكونون أحراراً في متابعة أبحاثهم والتعليم من دون تدخلات – في ظل نظام ملكي محافظ ومطلق في بلد تحظر فيه الأحزاب السياسية ويُمنع انتقاد زعيم البلاد؟ وقد تم طرح ذات الأسئلة من قبل المؤسسات الغربية الأخرى التي تلقت دعوات لفتح فروع لها في المدينة التعليمية.

أسئلة على المدى البعيد

بعد ما يقرب من عقدين من الزمن على افتتاح أول فرع جامعي هناك، يقول المنخرطون في المشروع إنه قد إرتقى إلى مستوى الوعود. مع ذلك، تبقى التساؤلات قائمة حول الاستدامة طويلة الأمد للمؤسسة المكلفة وأثرها على نظام التعليم العالي الوطني في دولة قطر.

افتتحت جامعة جورج تاون مدرسة الخدمة الخارجية في قطر عام 2005. وفي الوقت الذي أصبح فيه نونمان العميد عام 2011، يقول إن ناتج أبحاث أعضاء هيئة التدريس والمعدل الذي يتم به قبول الخريجين في برامج الدراسات العليا الرائدة يعادل ذلك الموجود في الحرم الرئيسي في واشنطن.

ربما تكون قدرة فرع جامعة جورج تاون على توسيع حدود الحرية الأكاديمية على ذات القدر من الأهمية في منطقة غالباً ما يتم انتقاد الحكومات فيها لوضعها المعارضين لها في السجون وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، أثارت الأبحاث التي نشرها أعضاء هيئة التدريس منذ عدة سنوات حول الظروف القاسية لعمال البناء الأجانب شرارة الإدانات من قبل منظمات حقوق الإنسان والتي قادت لإجراء إصلاحات حكومية.

واستضاف الفرع الجامعي منتديات عامة حول موضوعات مثيرة للجدل مثل الصراعات الطائفية في المنطقة والعلاقات المشحونة بين ممالك دول الخليج وإيران، وقد ضمت قوائم المتحدثين الذين تمت دعوتهم علماء من إسرائيل وإيران.

قال نونمان “لقد وفرت مؤسسة قطر الحماية لنا من الضغط الذي قد تتوقعه في المنطقة.”

أحياناً قد يجد فرع الجامعة بأن كتاباً يرغب في الحصول عليه محظوراً من قبل السلطات القطرية، بحسب نونمان. “لكن، إذا ما شعرنا بأن الطلاب بحاجة إليه، فإن هنالك دائماً طريقة لجلبه”، سواء أكان ذلك يعني جلب الكتاب بشكل ورقي أو إلكتروني.

تبنت قطر سياسة الإنفاق الباذخ على المدينة التعليمية في محاولة لضمان نجاحها. ويتقاضى أعضاء هيئة التدريس المعينين من خارج منطقة الشرق الأوسط علاوة سنوية على الراتب تزيد بحوالي 30 في المئة عن الرواتب في الحرم الجامعي في الولايات المتحدة، وفقاً لوثائق نشرت بموجب قانون حرية المعلومات الأميركي. كما أن المرافق الجامعية جديدة وواسعة وأحجام الفصول الدراسية غالباً ما تكون نصف ما هي عليه في الجامعات الرئيسية. (اقرأ القصة ذات الصلة: قطر تتربع على قائمة أغلى الجامعات الخاصة في المنطقة).

قالت زهرة بابار، عضوة هيئة التدريس في فرع جامعة جورج تاون، “غالباً ما يحسدنا الزملاء الذين يزوروننا من الولايات المتحدة – لأننا لسنا في مكاتب صغيرة ضيقة مثلهم.”

مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع (ويكيميديا كومنز)

قضت نيكول غونزاليس دي أبرو، طالبة الهندسة الكيميائية بجامعة تكساس أي آند إم Texas A & M، الفصل الدراسي الخريفي من العام الماضي في فرع المؤسسة في قطر، بعد أن تلقت عرضاً بمنحة دراسية كاملة للقيام بذلك. تقول دي أبرو إنها وجدت بأن المستوى الأكاديمي هناك مشابه لما هو عليه في الحرم الجامعي الرئيسي، “الفرق الوحيد هو أن الأستاذ يعمل معك حقاً لأن الفصول هنا أصغر بكثير.”

وأضافت “لقد كان الطقس العامل السلبي الوحيد.” إذ كان الجو رطباً ودرجة الحرارة بحدود 115 فهرنهايت – 46 درجة مئوية – عندما وصلت إلى قطر في آب/ أغسطس.

غالباً ما يشير الأجانب إلى أنهم وعلى الرغم من تلقيهم لمعاملة ودية بشكل عام داخل وخارج الحرم الجامعي، إلا أنهم يحتاجون لبذل بعض الجهد للتكيف مع الثقافة المحلية المحافظة.

70 في المئة من القطريين

يدرس مايكل بيرون الرسم في فرع جامعة فرجينيا كومونولث بقطر. يقول بيرون إنه وفي بضع مرات أثارت الأعمال الفنية التي تنتج في فصله حفيظة الطلاب الآخرين، “نحاول ألا نزعج أحداً، وإذا ما حدث ذلك عن غير قصد، نقوم بإتخاذ تدابير تصحيحية. فنحن هنا بصفة ضيوف.”

قضت جوليا دوناهو، التي ستبدأ قريباً عامها الأخير في حرم جامعة فرجينيا كومونولث الرئيسي، الفصل الدراسي الخريفي الأخير في فرع الدوحة. قالت “لقد كانت تجربة أشعرتني بضآلتي للغاية. لقد أدركت ضحالة معلوماتي التي أعرفها أو أفهمها عن الثقافات الأخرى.”

على العموم، “كانت تجربة رائعة”، بحسب ما تقول.

وبدلاً من العثور على جامعة أميركية واحدة لتفتح كليات مختلفة، فقد اعتمدت قطر نموذجاً ستوفر بموجبه كل مؤسسة أميركية تخصصاً واحداً تمتاز فيه بقوة خاصة. فبالإضافة لجامعة جورج تاون، هنالك (مع سنة افتتاح كل فرع): جامعة فرجينيا كومونولث (الفنون الجميلة، 1998)، وكلية طب وايل كورنيل (الطب، 2002)، وجامعة تكساس أي آند إم (الهندسة، 2003)، وجامعة كارنيجي ميلون (إدارة الأعمال وعلم الحاسوب، 2004)، وجامعة نورث وسترن (الصحافة، 2008).

وقد سجل في هذه المؤسسات مجتمعة حوالي 2,000 طالب وطالبة في العام الدراسي المنصرم. ويتم التعليم في هذه المؤسسات باللغة الإنجليزية، ويحصل الخريجون على شهادات صادرة من المؤسسة الرئيسية في الولايات المتحدة. في عام 2011، تم إفتتاح فرعين أجنبيين آخرين هما: جامعة الدراسات العليا للإدارة HEC Paris، وهي كلية فرنسية رائدة في إدارة الأعمال، وتوفر تعليماً إدارياً، فضلاً عن كلية لندن الجامعية، المؤسسة البريطانية التي تقدم برامج في مجال التراث الثقافي.

يأتي الطلاب من بلدان متعددة، لكن المدينة التعليمية تركز بشكل رئيسي على تثقيف المواطنين القطريين، خلافاً لمراكز التعليم العالي في دولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها من دول الجوار التي تعتمد في الغالب مالياً على استقطاب الطلاب إقليمياً أو حتى عالمياً. على الرغم من كون عدد سكان قطر يبلغ 2.3 مليون نسمة، إلا إن الغالبية العظمى منهم من الأجانب الذين تم جلبهم لملء مجموعة متنوعة من الوظائف في اقتصاد البلاد المزدهر. يحصل مواطنو قطر البالغ عددهم 280.000 نسمة وحدهم على الأولوية في القبول في فروع المدينة التعليمية.

وبحسب عقد تم عقده عام 2014 بين مؤسسة قطر وجامعة تكساس أي آند إم، كان “هدف” فرع المؤسسة قبول مواطنين قطريين بحدود “70 في المئة على الأقل” من طلاب المرحلة الجامعية. وتم نشر العقد في صحيفة واشنطن بوست بعد أن وافق المسؤولون في ولاية تكساس على طلب الصحيفة بنشر الوثيقة.

حالياً، يشكل المواطنون القطريون نحو 50 في المئة فقط من طلاب الفرع. لكن المسؤولين القطريين لم يمارسوا الضغط بهدف إستقطاب المزيد من الطلاب القطريين، بحسب إياد مسعد، نائب عميد فرع جامعة تكساس أي آند إم، الذي قال “الجميع يدرك بأن الأمر يتعلق بجودة الطلاب والبرامج.”

قاعة المحاضرات الرئيسية في جامعة تكساس إي أند أم في المدينة التعليمية في الدوحة. تصوير: أليكسي سيرغييف.

ومثلها مثل المؤسسات الأميركية الخمسة الأخرى المتواجدة في قطر، فإن جامعة تكساس أي آند إم تقوم بالكثير من الدعاية للوصول للطلاب – عبر زيارات للمدارس المحلية بهدف محاولة جذب اهتمام الطلاب لمجال الهندسة والحضور إلى حرم الجامعة في الدوحة. وعلى الرغم من غياب التقاليد الأكاديمية – فقد افتتحت أول مؤسسة تعليم عالي في قطر، كلية المعلمين، عام 1973 – إلا أن مسعد يقول إن الطلاب القطريين “لا يختلفون كثيراً عن طلاب البلدان الأخرى. أنت بحاجة لأن تعلمهم وتعمل معهم، وسوف يتلقون ذلك.”

ووفقاً للعقود التي تمكنت صحيفة واشنطن بوست من الحصول عليها من الجامعتين الحكوميتين الموجودتين في المدينة التعليمية، جامعة تكساس أي آند إم وجامعة فرجينيا كومونولث، فإن مؤسسة قطر تلعب دوراً قوياً في الإشراف على الفروع. على سبيل المثال، توافق الجامعات على عدم فتح برامج دراسية مماثلة في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، وأن تتشاور مع المؤسسة – وإعطاؤها القول الفصل “الكلمة العليا” – فيما يخص إختيار عميد ونواب عميد الفروع الجامعية.

فمن جانبها، يمثل المشروع مجازفة بالنسبة لقطر. فمن جانب هناك التكاليف المرتفعة للمدينة التعليمية – وهي قضية أضحت أكثر إلحاحاً مع الإنخفاض الحاد في أسعار النفط خلال العامين الماضيين. ويعتقد بأن المؤسسة قد أنفقت عدة مليارات من الدولارات لإنشاء مركز التعليم العالي هذا. وفي كل عام، وبحسب الوثائق التي تم كشفها لصحيفة واشنطن بوست، تنفق المؤسسة أكثر من 400 مليون دولار أميركي لتمويل إدارة المؤسسات الستة التي تمتلك تواجداً في الدوحة.

تتبع المملكة العربية السعودية المجاورة إستراتيجية مختلفة، وذلك بتوفير منح دراسية كاملة لأكثر من 100.000 طالب وطالبة في الجامعات الأجنبية، معظمها في الولايات المتحدة الأميركية. مع ذلك، فقد تسبب الانخفاض في أسعار النفط في قيام المملكة بتقليصٍ حاد لبرامج المنح الدراسية الخاصة بها.

تعليم ليبرالي في ثقافة محافظة

ومن القضايا الأخرى بالنسبة لدول الخليج مسألة تأثير التحرر الاجتماعي الذي يمكن لمثل هذه المشاريع أن تمتلكه على مجتمعاتهم المتحفظة للغاية. حيث توفر المؤسسات الأميركية ذات التعليم ذو النمط الغربي في فروعها في المدينة التعليمية كما هو الحال في جامعاتها في الوطن الأم. وتعتمد الفصول الدراسية على التعليم المشارك، على سبيل المثال، حيث يتوقع من الطلاب إمتلاكهم لآراء قوية والتعبير عنها.

شكا بعض طلاب الصحافة السابقين بأنهم لا يستطيعون حقاً ممارسة المهنة التي تعلموها في فرع جامعة نورث وسترن، نظراً للقيود المفروضة محلياً على حرية الصحافة. فقد إنتهى المطاف بطالب جامعي واحد وطالب دراسات عليا على الأقل في السجن. لذلك فإنهم مترددون في التعليق عن تجاربهم علناً.

بحسب أخبار الدوحة، ينص قانون الجرائم الإلكترونية في قطر، الذي صدر عام 2014، على أنه لا يمكن للصحفيين “انتهاك أياً من القيم أو المبادئ الإجتماعية، أو نشر أخبار، أو صور، أو تسجيلات صوتية أو فيديو يتعلق بالحياة الشخصية أو العائلية للأفراد – حتى إذا ما كان صحيحاً.” ولا يحدد القانون ما يعنيه “انتهاك القيم أو المبادئ الإجتماعية.” لكن عقوبات هذه الانتهاكات قاسية: وقد يصل الأمر لقضاء سنة واحدة في السجن أو غرامة أقصاها 100.000 ريال قطري (أكثر من 27.000 دولار أميركي).

قال إيفريت إي. دينيس، عميد جامعة نورث وسترن بقطر، إن الجامعة قد أطلعت أعضاء هيئة التدريس والطلاب حول القانون الجديد. مع ذلك، فإنه يعتقد بأن التغطية الإعلامية في البلد أصبحت أكثر وضوحاً وصراحة في السنوات الأخيرة، وتجري الآن تغطية قصص تم تجاهلها لفترات طويلة. قال دينيس، في مقابلة أجريت معه عام 2015، بأن الوضع “ليس مثالياً، وبعيد عن ذلك، ولكنه يتحسن.”

وأخيراً، كانت هناك شكاوى في المنطقة من كون الأموال والإهتمام الذي ينهال على المدينة التعليمية والمراكز المماثلة في بلدان أخرى يقوض أنظمة التعليم العالي الوطنية. في الواقع، غالباً ما يقوم المسؤولون “بجلب المؤسسات الأجنبية من دون إهتمام كاف بتحفيز جودة المؤسسات المحلية،” بحسب فرانسيسكو مارموليخو، أحد كبار خبراء التعليم العالي في البنك الدولي.

هنالك حاجة لسياسات حكومية مدروسة جيداً لتوفير التمويل الكافي وحوافز الآداء لأنظمة التعليم العالي الوطنية، والتي تخدم الطبقة الأقل نخبوية من السكان، بحسب مارموليخو. كما قال بأن هنالك حاجة أيضاً للمزيد من التكامل بين المؤسسات المحلية والأجنبية، من خلال تدابير من قبيل مساقات مفتوحة للطلاب من كلا الجانبين، وبإشراف مشترك من قبل الأساتذة.

ويرى مارموليخو بأن مقاربة سياسة متوازنة من شأنها أن تدعم تنمية كلاً من المؤسسات المحلية والأجنبية، مع تشجيع التلاقح بين الطرفين.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى