أخبار وتقارير

انكماش الاقتصاد المصري يقيد العلوم الاجتماعية

تنشر هذه القصة بالتعاون مع مدى مصر.

تضرر ملايين المصريين بشكل كبير بسبب قرار الحكومة بتعويم الجنيه المصري مقابل الدولار والرفع الجزئي لدعم الطاقة، مما أدى إلى تصاعد الانعكاسات الاقتصادية. في الوسط الأكاديمي، تتساءل أقسام العلوم الاجتماعية إذا ما كانت ستكون الضحية التالية للمشاكل الاقتصادية.

يحتج طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة، والذين يدرسون في جامعة النخبة في مصر، على زيادة تبلغ نسبتها 40 في المئة من المقرر اضافتها على الرسوم الدراسية.

وكحال بقية المرافق في البلاد، تشهد الجامعات عجزاً في الميزانية أثر عليها بشكل كبير. يشكو الطلاب وأعضاء هيئة التدريس من تصاعد خفض الرواتب، وارتفاع الرسوم الدراسية، وتسريح 20 في المئة من الموظفين، وبيع ممتلكات الجامعة، وفرض قيود كبيرة على المزايا المالية للعاملين، وتوقف المنح الدراسية المقدمة لطلاب المرحلة الجامعية على أساس الجدارة، وأثر كل ذلك على جودة التعليم في الجامعات بشكل كبير.

يتوقع طلاب العلوم الاجتماعية أن يتأثروا بشدة من جراء الأزمة. حيث يعتبر عدد الطلاب المسجلين في هذه الأقسام قليلاً بشكل تقليدي، وبالتالي فإن هذه الأقسام أقل فائدة للجامعة من الناحية المالية.

تعتقد غدير أحمد، الناشطة النسوية ومؤسسة مبادرة “ثورة البنات” لتمكين الشابات في مرحلة ما بعد الثورة المصرية، وطالبة الدراسات العليا في قسم دراسات النوع الاجتماعي في الجامعة الأميركية في القاهرة، بأن مستقبلها الأكاديمي في الجامعة مهدد بشكل كبير. وأوضحت أحمد بأن عليها دفع كل مدخراتها من أجل دفع تكاليف دورات اللغة الإنجليزية وعلم الاجتماع اللازم أخذها كشرط أساسي والتي تبلغ رسومها ما يقرُب من 51,000 جنيه مصري (2,900 دولار أميركي). عندما تقدمت أحمد بطلب للحصول على مساعدة مالية بخصوص إحدى الدورات، تلقت عرضاً بخصم يبلغ 20 في المئة فقط من المبلغ الأصلي المقدر بـ 3,000 جنيه. قبل الأزمة، كان في الإمكان أن تصل المساعدات المالية إلى حدود 50 في المئة من تكلفة كل دورة، بحسب أحمد.

قالت “لا تغطي الزمالة التي كنت أنوي التقدم بطلب للحصول عليها رسوم الدورات المطلوبة كشرط مسبق، بالإضافة لحقيقة كون المنح الدراسية في قسمي قليلة جداً. مع الزيادة المتوقعة في الرسوم الدراسية، سيكون من المستحيل بالنسبة لي دفع رسوم بقية المساقات، كما سيكون من المستحيل تقريباً بالنسبة لي الاستمرار في الدراسة.”

يعتمد العديد من طلاب الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية على أنفسهم في التمويل، بحسب أحمد، وذلك بسبب محدودية المنح الدراسية المتوفرة في تلك التخصصات. قالت “في بعض الأحيان، نستغرب من إلغاء الدورات المتاحة بسبب قلة عدد الطلاب الذين سيحضرون تلك المساقات، وبالتالي لن يكون هناك ما يكفي من المال لدفع رواتب الأستاذ والمعيدين. هذا يؤثر بشكل مباشر على جودة التعليم الذي نتلقاه.”

تخشى أحمد أنه، وبوجود الأزمة المتفاقمة، لن يكون هناك ما يكفي من التمويل للأبحاث. قالت “تنظر الجامعة إلى أقسام العلوم الاجتماعية وكأنها جزء من الديكور.”

مع ذلك لا يعتقد تيد بيورينتان، عميد كلية الدارسات العليا في التربية بالجامعة الأميركية في القاهرة، بأن الأزمة ستؤثر بشكل كبير على دراسة العلوم الاجتماعية في الجامعة. قال “لا يمكنني تصور كيف سيكون التسجيل مختلفاً، ولا يمكن أن أتصور كيف سيكون ذلك مختلفاً عن التأثير على البرامج الأخرى مثل إدارة الأعمال.”

وأضاف “ما أفهمه هو أن جميع البرامج ستتأثر بذات القدر. مع ذلك، نحن نمتلك نظام مساعدات مالية مثير للإعجاب بشكل كبير، لدينا منح دراسية لطلابنا، كما أننا نمتلك التمويل فيما تقوم الجهات المانحة بسد تلك الفجوة بشكل كبير. من شأن هذا أن يساعد في إدامتنا، ولا أتصور بأن هذه الأزمة التي تعصف بالبلاد ستوجه المزيد من الناس نحو دراسة الأعمال والهندسة أكثر مما هو عليه الحال بالفعل. أعتقد بأن أحد أكثر الأمور إثارة للدهشة بالنسبة لبرامج الدراسات العليا في الجامعة الأميركية في القاهرة هي أن الأشخاص الذين يتخرجون من كلية الآداب وجميع المجالات غير العلمية الأخرى هم الآن من كبار المدراء التنفيذيين ومستشاري السياسات. إنهم ليسوا أقل توظيفاً ويجنون الكثير من المال في واقع الأمر.”

تقول هدى الصدة، الأستاذة في جامعة القاهرة، إن دراسة العلوم الاجتماعية في مصر تتأثر بشكل عام وإلى حد كبير بالميل العالمي لخصخصة التعليم حيث لن يعود التعليم وسيلة لتحقيق التنمية الفكرية للفرد، وإنما أمر مرتبط باحتياجات السوق. وأشارت إلى إغلاق برنامج رفيع المستوى في الفلسفة في جامعة ميدلسكس البريطانية قبل بضعة أعوام على سبيل المثال.

وأكدت الصدة أنه “وعلى الرغم من كونه اتجاهاً عالمياً، فإن من الصعب تطبيقه في مصر. هذا هو تأثير الليبرالية الجديدة على الجامعات. من شأن تأثير هذا التوجه أن يكون أكثر شدة في مصر لأن ظروف التعليم تزداد سوءً بالفعل. تكمن مشكلة تأثير مثل هذه الاتجاهات على العلوم الاجتماعية في أنها ستؤثر على الفضاءات الوحيدة المتاحة لتطوير التفكير النقدي القادر على تحدي هذه الاتجاهات في المقام الأول.”

وأضافت “إذا ما قام جميع الطلاب بدراسة إدارة الأعمال أو العلوم بدلاً من العلوم الاجتماعية، سيكون من الصعوبة بمكان رؤية ناقدين ثقافيين قادرين على تحدي الوضع الراهن السائد.”

في مقال سابق بعنوان “الليبرالية الجديدة والهجوم على الجامعات“، قالت الصدة إن دور الدولة المصرية في دعم التعليم قد تقلص منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث تم اتخاذ خطوات لزيادة خصخصة التعليم. ففي عام 1992، صدر قانون يسمح ببناء الجامعات الخاصة التي أشارت إليها الصدة بوصفها “مشاريع استثمارية”. وفي عام 2002، صدر قانون آخر يسمح بمنح تراخيص لانشاء جامعات خاصة أجنبية.

قالت “لا يمكن أن تكون الجامعات مشاريع تسعى للربح.”

يدرس أحمد خير لنيل درجة الماجستير في برنامج “النوع الاجتماعي والتنمية” الذي تأسس حديثاً في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. وأوضح بأن الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في مصر مكلفة للغاية، حيث تبلغ الرسوم الدراسية لبرنامجه 27,000 جنيه مصري (حوالي 1,500 دولار أميركي)، وهو مبلغ مرتفع نسبياً مقارنة بالبرامج الأخرى في ذات الكلية.

يعتقد خير بأنه ليس هناك تمويل كاف لإجراء البحوث في العلوم الاجتماعية في مصر، لأن الأمر ليس مجدياً من الناحية الاقتصادية. قال “لنعقد مقارنة بين عدد الطلاب الملتحقين في برامج لنيل شهادة الماجستير في العلوم الاجتماعية وأولئك المتقدمين للحصول على درجة الماجستير في إدارة الأعمال. يتقدم الطلاب في الفصول الأخيرة ممن هم على وشك التخرج من كليات التجارة بطلبات للدراسة بهدف نيل شهادة الماجستير في إدارة الأعمال قبل تخرجهم لأن ذلك يعود عليهم بدخل أفضل.”

مع ذلك، تعتقد ريم سعد، أستاذة الأنثروبولوجيا الاجتماعية بالجامعة الأميركية في القاهرة، بأن المشكلة المتعلقة بأزمة الجامعات لا تتعلق بالجامعة نفسها بقدر كونها ناتجة عن أوضاع المجتمع المصري بشكلٍ عام.

قالت موضحة “عادة ما تكون الأهمية النسبية لأقسام مثل إدارة الأعمال أو الاقتصاد أعلى بكثير من العلوم الاجتماعية، لكن هذا يرتبط بالجو العام أيضاً. هناك مخاوف حول كيفية تأثير الأزمة على مستقبل البحوث في هذه الأقسام لكنها لم تتحقق بعد. على الأقل، لا يزال هناك مجال للنقاش والتفاوض في حرم الجامعة الأميركية في القاهرة بقدر أكبر بكثير من الهامش المتاح لذلك خارج الجامعة.”

وفي هذا الصدد، تشير سعد إلى البيئة السياسية الخارجية التي تهدد استمرارية البحث النقدي في العلوم الاجتماعية. حيث أشارت على وجه التحديد إلى تعديل في قانون العقوبات سيتم بموجبه فرض قيود صارمة على تلقي الأموال من الخارج. أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي تعديلاً على قانون العقوبات في أيلول/ سبتمبر 2014، يعاقب بموجبه من يتلقى تمويلاً أجنبياً بالسجن مدى الحياة ودفع غرامات مالية.

قالت سعد “التمويل أمر مهم بالنسبة للبحث. تم تصميم هذا التعديل لاستهداف منظمات حقوق الإنسان، لكنه سيؤثر أيضاً على البحث العلمي. من شأن هذا أن يؤثر على الجامعة الأميركية في القاهرة وكل من يسعى للقيام ببحث جاد وحاسم في العلوم الاجتماعية.”

تتفق الصدة مع ذلك، فقمع الحريات في أي مجتمع يمكن أن يؤثر تأثيراً مباشراً على دراسة العلوم الاجتماعية. قالت “عندما نتحدث عن تهديدات تطال البحث الأكاديمي، فإننا نتحدث مباشرة عن تهديدات سياسية ضد البحوث في مجالات مثل التاريخ، والفلسفة، والأدب، أكثر من التهديدات الموجهة ضد الدراسات العلمية. يزداد الفضاء العام ضيقاً، والجامعات بالتأكيد نموذج مصغر عن المجتمع.”

أثار مقتل وتعذيب الباحث الإيطالي جوليو ريغيني مخاوف متزايدة إزاء القيود التي يواجهها المجتمع الأكاديمي في مصر. فبسبب شهرة أبحاثه المستفيضة عن الحركة العمالية في مصر، يعتقد على نطاقٍ واسع أن ريغيني قد تم استهدافه من قبل قوات الأمن المصرية بسبب نشاطه الأكاديمي. كما أثارت حوادث أخرى مماثلة مخاوف مشابهة، مثل قرار إنهاء المنحة الدراسية التي حصلت عليها عالمة النفس والأكاديمية المصرية خلود صابر في بلجيكا. حيث وضحت صابر، المعروفة بنشاطها في مجال تعزيز استقلالية الجامعات والحرية الأكاديمية، في وقتها، بأن القرار قد استند على توصية من إحدى الجهات الأمنية، قبل أن تقرر جامعة القاهرة في وقت لاحق العدول عن قرارها.

بالنسبة لأحمد خير، تتمثل دراسة العلوم الاجتماعية في دراسة القضايا المثيرة للجدل. قال “هنالك قيود كبيرة على البحث الأكاديمي. إن مساحة التحرك وإجراء البحوث، لاسيما عندما يحتاج الباحثون لمتابعة مواضيعهم عن كثب، محدودة للغاية وصعبة.”

يتسبب تضاؤل الحرية السياسية والأوضاع الاقتصادية الكئيبة بإثارة تخوف علماء الاجتماع على مستقبلهم في ظل مثل هذه الأجواء.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى