مقالات رأي

دليل يكشف عن إرث رسّام مصري رائد

أصدر الناشر الإيطالي “سكيرا” العام الماضي ما يُدعى بالـ”كاتالوج ريزوني” catalogue raisonné وهو دليل يضم ويوثق كل أعمال الرسام المصري الكبير محمود سعيد. كان من دواعي سروري أن أتمعن فيه مؤخراً. يتألف الدليل من كتابَيْن، حرّرهما فاليري ديديي هيس وحسام رشوان، مكرسَيْن للوحات الملوّنة والصور على التوالي. ويتضمنان إعادات رائعة لكل أعمال سعيد، ومقالات كتبها مؤرخو الفنون والناقدون، وترجمة إلى الانكليزية لتعليقات حول عمله ظهرت على مرّ السنين بالعربية، بالإضافة إلى رسائل وصور ورسوم. أعلن معدوه أنه أول دليل يُنشر حول فنان عربي معاصر بهدف تسهيل توثيق أعمال سعيد، وجمع معلومات قد تكون ذات فائدة للأكاديميين والهواة.

وعلى الرغم من الازدهار الذي شهدته أسواق الفن العربي المعاصر في العقد المنصرم، كان هناك تقصير في النقد والمنح. ومن الطبيعي أن يبدأ تصحيح هذا النقص من عند محمود سعيد، فهو من أفضل الفنانين العرب مبيعاً. ففي العام 2010، بيعت إحدى لوحاته في مزاد علني بأكثر من 2.4 مليون دولار أميركي. ومنذ ذلك الوقت، بيع غيرها بأسعار مماثلة (إن مشروع الدليل برعاية مركز مزاد كريستي وعملاء آخرين فرديين). كما أنه يُعتبر عامة أب الفن المعاصر في مصر، ورائداً أغنت رسومه الزاهية والحسية والشبيهة بالأحلام هوية وطنية جديدة.

وُلِد سعيد في الاسكندرية في العام 1897 في عائلة ارستقراطية. شغل والده منصب رئيس الوزراء مرتين، وكانت ابنة أخته ملكة مصر، الملكة فريدة.

لم يرتد سعيد جامعة القاهرة للفنون الجميلة التي افتُتحت في العام 1908. فلم تُبد عائلته المرموقة أي تقدير لطموحه الفني وأصرت على أن يدرس الحقوق. إلا أنه تمكن من التردد إلى مشاغل فنانين إيطاليين ويونانيين في الاسكندرية ومن السفر إلى أوروبا وحضور صفوف فن في باريس.

نزولاً عند رغبة عائلته، صار سعيد قاضياً. وكان يرسم في وقت فراغه إلى أن تقاعد من المحكمة (وألهمته المحكمة أيضاً فكان يرسم زملاءه القضاة بالإضافة إلى المحامين والمُدَّعى عليهم).

من أعمال محمود سعيد

كان سعيد باشا يرسم أفراد مجتمعه العريق بشكل مذهل، ولكنه الفولكلور المصري الشعبي كان يلهمه بشدّة. فرسم لوحات الصيادين والمزارعين والرعاة وفتيات الاسكندرية اللواتي يتنزهن على الكورنيش وأضفى عليهن أناقة وجمالاً أبديّيْن، ووضعهم جميعاً في وسط مناظر فرحة وساحرة تملؤها أشجار النخيل والمراكب الشراعية والحمير. كما صوّر نوادي الرقص والدراويش في حركاتهم الدوّامية والرجال في الجامع كما في المقهى وكورنيش الاسكندرية في جميع الفصول. يتميز عمله بحس عميق للتركيب وبالضوء الباهر الذي يسطع من المياه والسماء والأجساد – لا سيما أجساد النساء.

تتمادى بعض المقالات في الدليل في الإنقسامات العاطفية أو التبسيطية، بحجة أن سعيد تخلى عن نسبه المرموق بسبب حبه للفولكلور الشعبي، أو أنه لم يتمكن من الوصول إلى الهوية المصرية الحقيقية إلا بالتغلب على التأثيرات الفنية الغربية.

إلا أن العديد من المساهمات تقدم وجهات نظر معتدلة ومثيرة للإعجاب حول عمله. تظهر فاليري ديديي هيس، إحدى المحرريْن، كيف نقل سعيد تركيب أشهر الأعمال الأوروبية الدينية (العائلة المقدسة، دفن المسيح) إلى رؤية خاصة للحياة المصرية العادية، مجرّدة من الرموز الدينية، محتفظاً بجوّ صوفي.

كانت المرأة العارية أحد مواضيع الرسم المفضلة لدى سعيد، وكانت جميع عارضاته العاريات نساء من الطبقة الدنيا بحكم الضرورة. فصور بعمق الجمال والحسية والحزن والقوّة فيهن. قالت أمل نصر، فنانة وأستاذة فنون، إنه في بعض من أجرأ لوحات سعيد وأكثرها غموضاً، رسم النساء العاريات في الهواء الطلق، في وسط مناظر من المدينة أو الخليج، “محرراً” بذلك أجساد لم تكن لتُعرض قط في العلن. (يستمر غياب جسد الأنثى الحر في العلن حتى يومنا هذا، ولم تعد ترسم أجساد العارضات الحقيقيات – ناهيك عن العاريات – في أقسام الفنون المصرية منذ الثمانينيات).

سيسر الكتاب المهتمين بعمل سعيد، فهو منشور جميل ومصدر معلومات قيّم. حبذا لو كان متوفراً باللغة العربية أيضاً ولو نشرت كل صور الكاتالوج على الانترنت. آمل أيضاً أن يُلهم مساعي مماثلة تتعلق بفنانين عرب معاصرين بارزين آخرين.

كان سعيد وأبناء جيله ورثة النهضة المصرية، وهي حركة فكرية دعت إلى الإصلاح في الفنون والعلوم ورفعت الآمال بالتقدم الاجتماعي. كان جيل سعيد من الفنانين منغمس في تشرب أشكال الثقافة الغربية، وفي إعادة إحياء التراث وفي تعريف هوية وطنية. طور محمود مختار الذي عاصره أسلوباً فرعونياً جديداً مدهشاً في النحت؛ وفي 1913 نشر محمد حسين هيكل “زينب” التي تعتبر أول رواية عربية.

بالنسبة إلى فاتن مصطفى كنفاني (وهي مساهمة أخرى في الدليل ومؤسسة معرض “ArtTalks”)، أحد أسباب جاذبية سعيد غير الاعتيادية اليوم هو أنه يمثل فترة زمنية كانت فيها “إمكانية التوصل إلى مجتمع عربي أفضل” على وشك التحقق. تكتب كنفاني “قام سعيد في لوحاته بـ”قولبة الهوية المصرية المثلى، هوية إنسانية بامتياز ومتفائلة بصدق.”

ترعة المحمودية، محمود سعيد

في حديث له مع مجلة “البصير” في العام 1948، لطف سعيد تفاؤله بإدراك تام للعقبات التي تقف أمام الابتكار الفني – ما يذكر بشدة بالعقبات التي يواجهها الفنانون في المنطقة اليوم. وقال إنه “لا يمكن للفنون الجميلة أن تزدهر إلا في بيئة من الاستقرار والرخاء. إن الأجواء مؤخراً في مصر بعيدة كل البعد عن الاستقرار وغير مناسبة إطلاقاً للفن. فتتمحور كل الأمور حول المسائل السياسية ووسائل العيش. كل ما يمكننا أن نتمناه هو أن تكون بداية إحياء مصر الحديثة هذه أيضاً بداية إحياء العلوم والفنون، إذ إنه يجب أن يكون لكل وطن في طور النمو فن يعبر عن مشاعره وغرائزه.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى