مقالات رأي

الموصل تنتصر بشهادة التاريخ

“نحن عثمانيون” هذا ما قالته جدتي عام 1996 المنحدرة من عائلة موصلية قديمة سكنت باب لكش، حين كان عمري لايزال عشرة أعوام فقط. في نفس العام أيضاً حصلت على أول تقويم للسنة الميلادية من مكتبة قديمة جداً في شارع النجفي.

كان ما قالته جدتي جواباً على سؤال طرحه خالي خلال مناقشتهم توزيع التركة التي خلفها أجدادهم في الموصل. كانت حصة أمي جزء من بيت صغير في باب البيض في الموصل القديمة قرب مدرسة الوطن التي أتمت فيها دراستها الابتدائية وتستذكر دوماً مديرتها الكردية كواكب جلميران. بدأت جدتي بالحديث بشكل مطول عن عثمانية المكان بلهجة موصلية لم أكد أفهم كل كلماتها، كانت تتحدث بسرعة كبيرة.

مرت السنين وبقي ذلك الموضوع عالقاً في رأسي، واحتفظت دون أن أدري بكل الوثائق التي تثبت ملكية أمي وحقها في ذلك المنزل. بعد سنوات طلب والدي مني نسخة الكترونية من الوثيقة العثمانية لجدي، لكنني حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف المقصود بكلمة “عثمانية” فبدأت بالقراءة وعرفت أن دولة كانت تسمى الخلافة العثمانية وأن الموصل كانت إحدى ولايتها ومنذ تلك اللحظة رغبت في فهم معنى التاريخ ولماذا تقول جدتي إننا عثمانيون، في حين يقول كل من حولي في المدرسة إننا موصليون عراقيون!

ولدت خلال الحرب العراقية الإيرانية وكبرت خلال حرب الخليج. لازلت أتذكر السرداب الكبير، الواقع في بيت قديم جداً في المدينة القديمة لأحد أجدادي، والذي اختبئنا بداخله أنا وكل أهلي وأقاربي خلال الحرب. ضم السرداب عوائل كثيرة كانت تفصلها عن بعضها قطعة قماش، وكانت الأحاديث كثيرة. كنت استمع إلى أحاديث العجائز، وكانت إحداهن تتحدث عن محنة الموصل عام 1917 والقحط الذي لحق بها وفي كل مرة استمع فيها لحديث جديد يزداد شغفي لمعرفة تاريخ هذه المدينة.

مضت ليلة واحدة على بلوغي السابعة عشرة من عمري حين دخلت القوات الأميركية العراق، كان يوم التاسع من نيسان/ ابريل 2003 وكنت عائداً من المدرسة التي تبعد تقريباً 20 دقيقة عن منزلي، حين وصلت البيت كان والدي يجلسان أمام التلفاز يشاهدان حشوداً من الناس تتجمع حول تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس. إذ قام  جنود أميركيون بربط التمثال بالسلاسل لإسقاطه، بينما ضربت حشود أخرى من الناس صورة لصدام. كان الجميع  صامتًا في تلك اللحظة، أبي، وأمي، وإخوتي الصغار جالسون حولهم، كان صوت التلفاز هو الأعلى. بعد دقائق لاحظت ابتسامة غريبة غير مفهومة على وجه والدي، ثم قال سقط الطاغية

مشهد عام لأحد الأسواق الشعبية في مدينة الموصل العراقية عام 1932، الصورة من ويكيميديا كومنز.

حتى تلك اللحظة كان كل شيء يجري بشكل طبيعي في منطقتنا، خرجت الى الشارع عصراً مع صديقي وشاهدنا مسلحين يرتدون الزي العسكري في الشارع، ومسؤول الفرقة الحزبية، وشباب يحملون أسلحة متوسطة وخفيفة، وسيارة كبيرة مليئة بالأسلحة يقف قربها خط طويل من الناس ينتظرون استلام السلاح، ثم يتم توزيعهم على نقاط تفتيش تنتشر حول الحي الذي أسكن فيه.

في اليوم التالي، كنت مع أصدقائي نقف قرب مسجد الحي الذي تجمع عنده مسلحون بزي مدني وعسكري لنشاهد ماذا يحدث. بدأ خطيب الجمعة كلامه عن ضرورة الدفاع عن العراق ضد “الاحتلال الأميركي” والدعاء لله لحفظ “الراعي والرعية ورئيس الجمهورية”. بالطبع، لم يكن هناك قوات أميركية في الموصل بعد. لكن بعد دقائق من بدء الخطبة وصلت عجلتان تحملان جنوداً أميركيين ومعهم شيخ يرتدي الزي العربي، عرفت لاحقاً أنه سالم ملا علو أحد شخصيات الموصل المعروفة. لم تكن لتمضي ثواني على مرورهم حتى بدأ الخطيب، الذي كان ينادي بالدفاع عن العراق، بالصراخ وهو يبكي “اليوم هو يوم الحرية، سقط الظلم وانتصر الحق، سقط الطاغية الظالم صدام ونظامه البعثي” فبدأت صيحات “الله اكبر” تملأ المكان.

كان هذا العام هو الباعث على كتابتي للتاريخ، 4 أيام غيرت الكثير في حياتي، في السابع من نيسان/أبريل 2003 كانت الذكرى السادسة والخمسون لتأسيس حزب البعث، وفي ثامنه ذكرى ميلادي السابعة عشر، وتاسعه سقوط بغداد، وعاشره سقوط الموصل ووصل القوات الأميركية الى المدينة.

بدأت بالقراءة عن العثمانيين وعن وجودهم في الموصل التي كانت إحدى ولاياتهم، مر زمن طويل وأنا اقرأ إلى أن قررت دخول كلية التاريخ في جامعة الموصل رغم شغفي وحبي للكيمياء بحثاً عن أجوبة لأسئلة كثيرة تدور في رأسي، كان أهمها ما قالته جدتي! قررت حينها التخصص في دراسات تاريخ الشرق الأوسط، وقررت إعداد أطروحتي للماجستير عن مؤرخ مصري عاصر الحملة الفرنسية على مصر هو عبد الرحمن الجبرتي (1753-1825) والذي ألف كتاب “عجائب الآثار في التراجم والاخبار” يؤرخ فيه للحملة الفرنسية على مصر.

كانت رغبتي ملحة في دراسة ما كتبه هذا المؤرخ سعياً لفهم أسباب وجود قوات أجنبية في مدينتي الموصل، ربما سأجد إجابات لدى هذا المؤرخ عن الجنود الفرنسيين في القاهرة لتعطيني فهماً أفضل عن القوات الأميركية في الموصل.

في الوقت نفسه استمرت مراقبتي لحركة الجهاديين وتغلغل مفاهيمهم في المجتمع. لقد نجحوا في أحيان كثيرة بتحويلها الى ثوابت في المجتمع الموصلي وتغيير عاداته وتقاليده. إذ صارت المفردات اليومية تدور حول “الجهاد” و”الفداء” و”الاستشهاد”. كانت هذه العبارات هي التداول اليومي للمدينة، أما شرائط الفيديو لعمليات الذبح والمعارك فقد كانت الإنتاج الفني السينمائي اليومي في الموصل، حيث كانت الجماعات الجهادية توزعها في الشوارع والجوامع وكانت أيضاً تباع على الأرصفة مقابل جامعة الموصل وفي منطقة باب الطوب. حتى أن بعض الشعراء بدأوا بكتابة قصائد تمدح الجهاديين وسياراتهم المستخدمة في العمليات الإرهابية. إذ قال أحدهم واصفاً سيارة الأوبل الألمانية Opel Vectra، والتي كانت منتشرة جداً في العراق بعد عام 2003 وكانت السيارة المفضلة لدى الجهاديين في العمليات الانتحارية، إنها الفرس الجديد وأن خيالها هو “المجاهد”.

في الساعة الثالثة فجراً، العاشر من حزيران/يونيو 2014 اقتحمت مجموعة مسلحة الحي الذي نقطنه في الشمال الغربي من الموصل، وبدأت بإطلاق النار بشكل كثيف على مناطق تجمع الشرطة العراقية، وعلى نقطة التفتيش الرئيسية. استمرت الاشتباكات المسلحة حتى الحادية عشرة صباحاً بعدها هدأ كل شيء وخرجت مع أهلي للشارع لنجد الجثث ملقاة في كل مكان. كان هناك أيضاً  سيارة لونها أحمر بداخلها براميل متفجرة، وفي أخر الشارع سيارة إسعاف تحترق بداخلها جثة لشرطي عراقي، ورجال مسلحون يرتدون الزي الأفغاني باللون الأسود ويحملون أعلاماً سوداء تعرف براية العقاب كنت قد سبق وكتبت عنها وكشفت زيفها وبطلانها.

جنود من الجيش الأميركي ملحقون بشركة ثقيلة يختبئون خلف سيارتهم بعد سماعهم نيران أسلحة صغيرة في الموصل 2008. ، الصورة من ويكيميديا كومنز.

في الثالث عشر من حزيران/يونيو 2014، وبعد أن أكملت ميلشيات تنظيم ما يعرف باسم الدولة الإسلامية “داعش” سيطرتها على الموصل قاموا بتوزيع “وثيقة المدينة”. حينها أدركت أنهم يريدون تغيير تاريخ المدينة، وفعلاً حدث ما كنت أخشاه، إذ دمروا كل الأثار الأشورية والمسيحية والإسلامية وكل شيء يتعلق بتاريخ المدينة، وبدأوا بتطبيق نسختهم من التاريخ على الموصل.

مضت ثلاث سنوات والموصل تحت سلطة إرهاب داعش، رؤوس منفصلة عن الأجساد، وجلود طبعت عليها السياط، ورؤوس هشمتها الحجارة، وأجساد رميت من مباني عالية، وأنواع مبتكرة من التعذيب في السجون مع سلب لأموال الناس ومصادرة للبيوت، وتدمير للبنية الاجتماعية، وطرد للمسحيين واستعباد لليزيديين وقتل بالسنة والشيعة، وسلب لكل قيمة إنسانية من الناس. كتبت تاريخ هذه المدينة لأحفظ ما جرى فيها من هذا التخريب الوحشي، وأسميت تاريخها “التاريخ المذهل في احتلال داعش (الدولة الإسلامية) للموصل”. لا أعرف متى أنشر هذا التاريخ، ربما يوماً ما، لكنني أعرف أن البشاعة التي يتضمنها مخيفة جداً.

هربت من مدينة الموصل إلى أوروبا، وبدأت الإعداد لأطروحة الدكتوراه عن تاريخ الموصل في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ما زلت أحمل سؤال العثمانيين، لكنه هذه المرة بصيغة مختلفة تماماً. فخلال بحثي عن المصادر لدراستي وجدت مخطوطات لمؤرخ موصلي كتبها بشكل يومي لتوثيق تاريخ الموصل في واحدة من أخطر مراحلها بين أواخر القرنين التاسع عشر العشرين. كنت مصدوماً من حجم التشابه بين ما كتبه عن العثمانيين وعن أخر لحظات وجودهم في الموصل قبل دخول البريطانيين للمدينة وبين ما كتبته عن داعش ودخولها الموصل وخروجها منها.

كان العثمانيون أيضاً يحكمون المدينة باسم الخلافة، تماماً مثل داعش. إذ بطش العثمانيون، بحسب المؤرخ في  أواخر عام 1917، بالناس وصادروا أموالهم. وكان الناس في عوز وجوع شديدين كاد يهلكهم في زمن المحنة. كما مارس العثمانيون أبشع أنواع التعذيب بحق أهل الموصل، تماماً كانت فعلت داعش.

لم يغفل ذلك المؤرخ تلك التفاصيل المتعلقة بدعوة الناس للجهاد خلال الحرب العالمية الأولى، ومثلها فعلت داعش بنشر مستمر عن “الجهاد” ودعوة الناس للجهاد من خلال الجوامع، ما كتبه ذلك المؤرخ عن تاريخ الموصل وما كتبته أنا متشابه إلى حد كبير، فالمدينة كانت تحت حكم خلافتين، خلافة بني عثمان وخلافة البغدادي.

ومع سقوط الخلافة العثمانية في الموصل عام 1918 ودخل البريطانيين، تنفس الناس الصعداء بعد الظلم الذي لحق بهم. إذ فتح البريطانيون المخازن التي احتوت الغذاء الذي صادره العثمانيون وأكل الناس بعد جوع شديد. كذلك فعلت داعش مع الموصليين في 2017 خلال معركة التحرير حين حجزت الناس وصادرت طعامهم وحرمتهم من الماء والغذاء والدواء.

لكن الموصل تنجو دائما بفضل أبناءها الذين يحافظون عليها ويرفضون الظلم الذي يقع عليها من أتباع الخلافة وغيرها. والقارئ للتاريخ يدرك تماماً أن حكاية الموصل مع “الخلافة” تنتهي دوما بانتصار المدينة.

للأسف توفيت جدتي بحسرتها في منتصف عام 2015، ليتها موجودة اليوم لأخبرها بتحرير الموصل واقرأ لها هذه المقالة التي كتبتها. لا يا جدتي، نحن لسنا عثمانيون، نحن موصليون.

عمر محمد – مؤسس عين الموصل

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى