أخبار وتقارير

الكلمات الأخيرة لعالم اجتماع عراقي رائد

ربما يتوجب على أي مهتم بفهم نتيجة الانتخابات البرلمانية التي أجريت في العراق الشهر الماضي – والتي فاز فيها تحالف شيعي سياسي بأكبر عدد من المقاعد، ولكن ليس بما يكفي لتشكيل حكومة – أن يراجع أعمال عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار، الذي تم وصفه بأنه “أحد أفضل العقول العراقية في عصره”.

كان عبد الجبار، الذي توفي في شباط/ فبراير، يتابع التطورات في بلاده ويجرى مقابلات إذاعية قبيل أيام من وفاته. وفي آخر منشور له، وهي ورقة بحثية نشرت هذا الشهر، نجد رؤية ثاقبة عن القوى الاجتماعية والسياسية العراقية الفريدة التي ظهرت الى الساحة في الفترة منذ صيف 2015، عندما اندلعت حركة شعبية للاحتجاج على فساد الحكومة الإسلامية في البلاد.

كتب توبي دودج، مدير مركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد، بأن وفاة عبد الجبار ” حرمت العالم الأكاديمي من أحد كبار المفكرين العاملين في العراق.”

تجمع الورقة الأخيرة لعبد الجبار، “حركة الاحتجاج العراقية: من سياسة الهوية إلى سياسة القضية“، بين المعرفة العميقة بالتاريخ العراقي والفهم الواسع للفكر الاجتماعي. تصف الورقة البحثية عملية أدت فيها سياسة الهوية في العراق، متمثلة في أحزاب سياسية تمثل هويات دينية متنافسة، إلى افساح المجال لسياسة قائمة على القضايا. وهكذا طالبت الانتفاضة في عام 2015، والتي بدأت بالمطالبة بتوفير خدمة كهرباء مُرضية، حيث يتصبّب الناس عرقا بدون مكيفات الهواء في ذروة الصيف العراقي، بسياسات عملية من أولئك الذين في السلطة فضلا عن المطالبة بوضع حد للفساد.

أثبتت الأدلة من الانتخابات البرلمانية الأخيرة وجهة نظر عبد الجبار. ففي سياق الحملة، كتب ريناد منصور في مقدمة بحث عبد الجبار، وهو زميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتام هاوس في لندن، “شكل رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر تحالفًا انتخابيًا مع الحزب الشيوعي العراقي. وعلاوة على ذلك، تحدث آية الله العظمى علي السيستاني ضد التصويت على أساس الهوية، وأنه يجب دعم حتى المسيحيين إذا ما كان المرشح أفضل من الشيعة.”

أظهر عبد الجبار أن سكان العراق الشيعة يقاومون التصنيف السهل، لا سيما في العلوم السياسية. وكما أشار منصور، فإنه وبعد الإطاحة بنظام البعث في العراق من قبل قوات الولايات المتحدة وحلفائها، “كان من الواجب تعريف العراق الجديد على أساس خطوط الهوية، لضمان التمثيل العادل لجميع الأعراق والطوائف بهدف منع عودة الديكتاتورية البعثية التكريتية. وبحسب منطق الديموغرافيا، فإن الأغلبية الشيعية ستحكم العراق الجديد.”

لكن الشيعة العراقيين لم يلعبوا الدور الذي كتب لهم. فلم تتجذر النسخة العراقية من ولاية الفقيه الإيرانية، أو الحكم الثيوقراطي. وعلى المستوى الشعبي، لم يدعم الشيعة العراقيون تدخل إيران في بلدهم بشكل تلقائي، وعندما توقف تكييف الهواء في منازلهم عن العمل في البصرة وبغداد، قاموا بثورة ضد قيادتهم في الحكومة. هذه هي الصورة التي رسمها عبد الجبار.

أعمال حاسمة

وصف دودج وكتابات تكريم تذكارية أخرى نشرت على مدونة مركز الشرق الأوسط لمدرسة لندن حياة عبد الجبار ومسيرته المهنية بأنها غير عادية.

ولد عبد الجبار في بغداد عام 1946 في ظروف متواضعة. في العشرينات من عمره، انضم إلى الحزب الشيوعي العراقي وعمل ككاتب ومحرر. في السبعينيات، أمضى بعض الوقت في لبنان دعماً لحركة المقاومة الفلسطينية. وفي الثمانينيات، انضم إلى الشيوعيين الأكراد المعارضين للحكم البعثي.

في التسعينيات، انتقل إلى لندن حيث بدأ بدراسة الدكتوراه في علم الاجتماع في كلية السياسة وعلم الاجتماع في بيركبيك بجامعة لندن. أشرف سامي زبيدة، استاذه المشرف في بيركبيك، على أطروحة نشرت في النهاية ككتاب بعنوان “الحركة الشيعية في العراق” (2003)، وهو كتاب وصفه دودج بأنه “العمل الحاسم بالنسبة للنشاط السياسي الشيعي في العراق”.

فسّر هذا الكتاب، بحسب دودج، “العراق لعالم أوسع، لكنه تجنب أيضًا الاختصارات التحليلية أو الكليشيهات، وبذلك كانت استنتاجاته قادرة على الصمود أمام اختبار الزمن.”

في وقت لاحق، أسس عبد الجبار المعهد العراقي للدراسات الاستراتيجية، ومقره في بيروت، لتدريب جيل جديد من الباحثين في العلوم الاجتماعية العراقية بهدف (وفقاً لموقعه على شبكة الإنترنت) “تعزيز ثقافة مدنية ديمقراطية سلمية متسامحة تستند إلى الحقوق في العراق، وبناء منظمات مجتمع مدني وحكم جديدة.”

بصفته كاتب ومحرر، ساهمت منشورات عبد الجبار في تسليط الأضواء على السياسة والمجتمع العراقيين. فقد جمع كتاب “القبائل والسلطة: الوطنية والقومية في الشرق الأوسط” (والذي قام بتحريره بشكل مشترك مع هشام داود ، الباحث في الأنثروبولوجيا المعاصرة في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي) مقالات أظهرت بأن القبيلة، وإن كانت غامضة وغير متبلور كوحدة اجتماعية، لا تزال شيئاً حياً في جميع أنحاء المنطقة العربية، وأنه وعلى الرغم من ارتباطاتها القديمة فإن القبيلة تتكيف وتعيش، ويجب أن تعتبر ذات صلة في التحليل الاجتماعي والسياسي.

وكمثال آخر، نشر، في عام 2017، بالتعاون مع منصور، “الحشد الشعبي ومستقبل العراق“، وهي ورقة أوضحت أن هذه المليشيات غير الرسمية كانت حقيقة من حقائق الحياة التي يجب الاعتراف بها في عملية التسوية السياسية والاجتماعية في العراق.

كتب صديقه وزميله كاوا بيساراني، “على الرغم من أن فالح قد مر بالكثير من التغييرات في حياته السياسية، إلا أنه بقي صادقاً في إيمانه الجوهري بالحاجة إلى إيجاد تغيير اجتماعي واقتصادي تقدمي في المجتمع، ليس في العراق فحسب بل في العالم العربي بشكل عام.”

Countries

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى