مقالات رأي

في رثاء الخبير الاقتصادي المصري سمير أمين

كان سمير أمين، الذي توفي الشهر الماضي في باريس عن عمر يناهز 86 عاماً، أحد كبار المفكرين في مصر المعاصرة. وبصفته خبيراً اقتصادياً، أظهر أمين كيفية تدفق الثروة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، ومن الجنوب إلى الشمال. إذ كان لروايته للنظم الاقتصادية العالمية تأثير كبير خارج مجال الاقتصاد الأكاديمي، وساهمت في اطلاع صانعي السياسة، إلى جانب الناشطين السياسيين والمثقفين.

صاغ أمين مصطلح “المركزية الأوروبية” (Eurocentrism) – وهي نظرة عالمية تركز على الحضارة الغربية – وقد دخل المصطلح المعجم السياسي العالمي.

وصف أمين نفسه بأنه “ماركسي مبدع”، حيث بدأ نظرته للاقتصاد العالمي بتحليل ماركسي، لكنه لم ينته إلى الحلول العقائدية للينين أو ماو. وكخبير اقتصادي في مجال التنمية، أظهر كيف يمنع تراكم رأس المال في البلدان الرأسمالية المتقدمة – والتي أسماها بالمركز – التنمية في البلدان المتخلفة – وهو ما أطلق عليه اسم الأطراف.

يمثل عمله أحد أبرز المساهمات في مدرسة التبعية الاقتصادية، وهو نهج لفهم الرأسمالية في عالم ما بعد الاستعمار. وعلى الرغم من عدم وجود نظرية واحدة موحدة للتبعية، إلا أن السؤال الرئيسي يتعلق بالكيفية التي تم من خلالها دمج دول العالم الثالث (أي تلك التي لا تنتمي إلى أي من العالمين الرئيسيين: الشيوعية أو الرأسمالية الغربية) في النظام السياسي-الاقتصادي العالمي.

يعتقد أمين أن جزءً من الإجابة يتمثل في كون أسعار العمالة في جميع أنحاء العالم ليست موزعة بشكل غير متساوٍ فحسب، بل إنها لن ترتفع إلى مستوى قيمتها الحقيقية. من خلال تطوير نظرية القيمة لماركس، أظهر أمين كيف عملت النظرية على المستوى العالمي للسماح باستخراج القيمة من الأطراف لصالح الاحتكار الرأس المالي للمركز.

تبقى ثلاثة من أعماله على وجه الخصوص ذات صلة بالواقع اليوم، ويمكن التوصية بها للطلاب ولأي شخص مهتم بالاقتصاد العالمي. وتشمل هذه الكتب الثلاثة التي وضع فيها نظريته حول المركز والأطراف: التراكم على الصعيد العالمي (1974)، وقانون القيمة المعولة (1973)، والتنمية غير المتكافئة (1977).

أغنت كتاباته الجدال داخل الدوائر الفكرية لليسار المصري، سواء اتفقوا أو اختلفوا مع أفكاره. ففي مصر، على سبيل المثال، اختلفت حركة الاشتراكيين الثوريين مع أمين، وبشكل خاص مع العواقب السياسية لأفكاره. وانتقدوا أمين لإعادة صياغة الصراع الطبقي بين برجوازية المركز وبروليتاريا الأطراف، وليس بين البرجوازية والبروليتاريا في كل العالم. كما تعرضت أعمال أمين للانتقاد بسبب التقليل من أهمية دور الصراع الطبقي في التغلب على “التخلف” لصالح اعتماد ما يراه سياسات الدولة الصحيحة.

ولد سمير أمين في القاهرة عام 1931 لأب مصري وأم فرنسية، وكلاهما من الأطباء. بعد طفولة قضاها في بورسعيد، ذهب إلى باريس لدراسة العلوم السياسية والاقتصاد. انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عندما كان طالباً. أكمل أطروحة الدكتوراه في باريس، وفي عام 1957 عاد إلى مصر، حيث عمل كخبير اقتصادي حكومي لمدة ثلاث سنوات. وبعد خيبة أمله في البرنامج الاقتصادي للرئيس المصري جمال عبد الناصر، أصبح أمين مستشارًا اقتصاديًا لحكومة مالي، التي كانت في حينها دولة إفريقية حديثة الإستقلال.

أثارت أفكاره الأخيرة بخصوص الربيع العربي جدلاً كبيراً بين النشطاء السياسيين والمثقفين في مصر وسوريا. فقد انتقده بعض السوريين لدعمه نظام الأسد بعد دخول حركات إسلامية إلى الانتفاضة السورية. كما انتقد بعض المصريين دعمه للإطاحة بالإخوان المسلمين في مصر. لكن كتاباته في النهاية تبقى مادة غنية للمناقشة والتفكير النقدي حول مصر والمنطقة العربية بأسرها.

اتفقت تمامًا مع وجهة نظر سمير أمين بأن الثورة المصرية التي بدأت في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، لم تكن تهدف إلى الإطاحة بنظام حسني مبارك فحسب، بل كانت أيضاً انتفاضة ضد انعدام المساواة الاجتماعية وتبعية مصر للنظام الاقتصادي العالمي. لم تهدف الثورة المصرية إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية في مصر فحسب، بل كان لها بعداً اجتماعياً اقتصادياً يتجاوز الإصلاحات السياسية. كان ذلك واضحاً منذ اليوم الأول للثورة من خلال الشعارات التي أكدت على مبدأ العدالة الاجتماعية.

لكنني اختلفت معه في رفضه القاطع للحركة الإسلامية كرد فعل للجناح اليميني المدعوم من الولايات المتحدة. إذ تجاهلت هذه الرؤية المداولات داخل المعسكر الإسلامي وكيف تأثرت المنظمات الإسلامية ذاتها بالربيع العربي. على سبيل المثال، انخرط الإخوان المسلمون في مصر بعد عام 2011 في نقاش حاد حول شكل الحركة ومستقبلها، وناقشوا قضايا مثيرة للجدل بما في ذلك التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة بعد الثورة. في الواقع، انشق بعض أعضاء الحركة عن جماعة الإخوان المسلمين وأنشأوا منظمات سياسية جديدة، مثل عبد المنعم أبو الفتوح، الذي رشح نفسه للرئاسة في عام 2012. بعد الانتخابات، أنشأ حزب مصر القوية الذي أصرّ على تبني سياسات اجتماعية واقتصادية جديدة لضمان العدالة الاجتماعية.

اعتقد سمير أمين أن الإسلام السياسي مجرد وجه آخر للرأسمالية الجامحة، وأنه قوة رجعية تخدم مصالح القوى الرأسمالية الغربية دون فهم الاتجاهات المختلفة داخل الحركة الإسلامية ومواقفها المختلفة تجاه القضايا الاجتماعية والاقتصادية. أدى هذا الرأي إلى رفض أمين للإدارة المنتخبة للإخوان المسلمين في مصر في الفترة ما بين 2012  و2013 وترحيبه بالتدخل العسكري لإبعاد محمد مرسي عن رئاسة الجمهورية. تسببت وجهات نظره تلك في جدل كبير في أوساط اليسار المصري وبين المثقفين.

وبينما اتبعت قيادة الإخوان المسلمين، عندما كانت في السلطة، ذات السياسات الاجتماعية والاقتصادية لمبارك، إلا أن البيئة السياسية الحرة بعد عام 2011 سمحت بتفاعل أكبر بين الشباب الإسلامي واليساري حيث تمت مناقشة القضايا الاجتماعية والاقتصادية بعمق. أهمل أمين دراسة ذلك، وتجاهل تأثير الربيع العربي على الحركة الإسلامية. لم ير إمكانية تطورها لمواجهة التحديات التي واجهتها.

بشكل عام، ومع ذلك، فإن روايته عن انعدام المساواة المتضمنة في النظام الاقتصادي العالمي لا تزال صحيحة كما كانت في أي وقت مضى، بعد خمسين عام من وصفه لها لأول مرة.

*جورج فهمي، زميل مشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاتهام هاوس وزميل باحث في برنامج مسارات الشرق الأوسط في مركز روبرت شومان للدراسات المتقدمة في معهد الجامعة الأوروبية في فيسولي بإيطاليا.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى