مقالات رأي

الإصلاح الاقتصادي في مصر يبحث عن حلول سريعة

في كتابه الأخير “الاقتصاد السياسي للإصلاحات في مصر: القضايا وصنع السياسة منذ العام 1952“، قام خالد إكرام بعمل نادر بتأليفه لكتاب عن الاقتصاد موجّه لعامة الناس بشكل سهل ومفيد وممتع للقراءة.

بحسب ما يشرح إكرام بذكاء، تواجه مصر مشكلة طويلة الأمد عبارة عن مزيج من التركيبة السكانية والجغرافيا: حيث تعيش مجموعة كبيرة ومتنامية من السكان على امتداد محدود من الأراضي المنتجة والتي تتوفر على كميات محدودة من المياه. بحسب إكرام، تضيف مصر كل سنتين إلى سكانها عدد يعادل عدد سكان نيوزيلندا أو أيرلندا (حوالي أربعة ملايين نسمة)؛ وكل خمس سنوات، تضيف عدد سكان يماثل عدد سكان السويد أو البرتغال (ما يقرب من عشرة ملايين).

تحتاج مصر لتحقيق نمو إجمالي قوي في ناتجها المحلي بهدف خلق فرص عمل لـ 700,000 شخص يدخلون إلى سوق العمل كل عام. لكن اقتصادها يتميز بانخفاض الإنتاجية – حيث تأتي الزيادات المتواضعة في الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير من الزيادة في العمالة ورأس المال، وليس نتيجة لزيادة الكفاءة أو الإنتاجية.

يلقي كتاب إكرام، الذي نشرته الجامعة الأميركية في القاهرة هذا العام، نظرة عامة واضحة وجذابة على السياسات والإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها الأنظمة المصرية المتعاقبة، والآثار المترتبة عنها. يتساءل الكتاب عن أسباب إدخال الإصلاحات – التي يتفق الجميع على كونها ضرورية – ببطء شديد وشكل متقطع ومن دون نجاح. ويرى المؤلف في تقديم احدى الإجابات عن ذلك بأن السياسات غالباً ما تحقق أهدافًا اجتماعية وسياسية تتعارض مع الأهداف الاقتصادية.

شغل إكرام منصب المدير السابق لقسم مصر في البنك الدولي، وقد عمل مستشارًا لعدد من البنوك والوكالات الإنمائية الدولية، لكنه ليس من مناصري أيديولوجيا السوق الحرة، وقد جعلني تحليله اشعر بحياديته. بحسب تعريفه يتمثل ما يتوجب على السياسة الاقتصادية، في أبسط صورها، تحقيقه في “توفير حياة أفضل لمواطني البلاد وجعلها أقل عرضة للضغوط الخارجية”.

من بين ما أوقف الإصلاحات الضرورية في مصر، شيء واحد يتمثل في مقاومة المصالح الراسخة للتغيير. كتب إكرام “يمكن ان تقاتل بعض القوى السياسية القوية للحفاظ على منافعها الخاصة الناشئة عن عدم كفاءة تخصيص الموارد، بغض النظر عن التكلفة التي يدفعها المجتمع بسبب ذلك.”

على سبيل المثال، تمثل الشركات الصغيرة وغير الرسمية في الغالب 95 في المئة من الشركات في مصر. ومع ذلك، فقد وضعت سياسات تنظيم التجارة والعمل والطاقة والمنافسة بشكل يفضّل الشركات الكبرى. يستشهد إكرام بدراسة تظهر أن الشركات المرتبطة بالسياسات لديها أرباح تزيد 13 ضعفاً عن أرباح الشركات المماثلة غير المتصلة بالسياسات – والتي تعزى بشكل شبه كلي إلى إعانات الطاقة وإجراءات التعريفة التفضيلية. وبذلك يكون لأصحاب الشركات الكبيرة الذين يدينون بثروتهم لعلاقاتهم الجيدة مع النظام الاستبدادي حافز ضئيل لدعم الديمقراطية.

كما يتمثل الجانب الآخر المميز للاقتصاد المصري، بحسب إكرام (وغيره ممن يستشهد بهم)، في كون الأنظمة المصرية، التي تفتقر إلى شرعية الانتخابات الديمقراطية، قد اكتسبت الشعبية – أو الإذعان على الأقل – من خلال مجموعة واسعة من الإعانات وإبقاء الضرائب منخفضة. لقد وضعت السياسة الاقتصادية، أولاً وقبل كل شيء، بهدف ضمان بقاء النظام.

كما تم استخدام التوظيف في بيروقراطية الدولة كنوع من الإعانة. ففي عام 2016، وبعد تقلص القطاع العام لبعض الوقت، كان هناك موظف حكومي واحد لكل 13 مواطنًا (وهذا الرقم يستثني الجيش). تعتبر هذه البيروقراطية، التي يعمل موظفوها في وظائف شبه مصطنعة مقابل رواتب منخفضة وغالبًا ما تكون لهم وظائف أخرى في أماكن أخرى، بمثابة مقاومة شديدة للتغيير أيضًا.

وبما أن الحكومات المصرية نادرًا ما كانت ترغب في فرض إصلاحات جذرية “مؤلمة”، فإنها غالباً ما تفي باحتياجاتها من خلال الاعتماد على الديون الخارجية، والإيجارات والمساعدات – وعلى المكاسب المفاجئة، مثل الإعفاء من الديون الكبرى الذي حصلت عليه مصر في عام 1991 من قبل القوى الغربية والمؤسسات المالية الدولية بعد أن دعمت التحالف ضد العراق بقيادة الولايات المتحدة في حرب الخليج الأولى.

إلا أن الديون الخارجية أضرت بسيادة مصر، وقد أثبتت المعونات الأجنبية (وكل ما هو مرتبط بها) كونها مثيرة للمشاكل. كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان ذلك قد شجع الإصلاحات أو خلق فرصًا متكررة لتعطيل تحقيقها.

تألفت صناعة السياسة الاقتصادية في مصر إلى حد كبير من “البحث المستمر عن حلول سريعة”، بحسب ما يكتب إكرام. فمنذ انتفاضة الخبز عام 1977 (ردًا على حزمة صندوق النقد الدولي التي طالبت بتخفيضات في الدعم وبالتالي زيادة في سعر الخبز)، أصبحت السلطات المصرية حذرة للغاية من إشعال حالة من السخط الشعبي وتبنت النهج البطيء والتدريجي. يشير إكرام إلى أنه من غير المرجح أن يختلف الوزراء مع رئيسهم، وهم غير راغبين في تحمل اللوم بخصوص الإصلاحات التي لا تحظى بشعبية والتي قد لا يكون في الإمكان رؤية نتائجها إلا بعد سنوات عديدة، وسيكونون خارج السلطة في تلك الأثناء.

في كثير من الأحيان، كانت سياسة السلطات تتألف من أكثر من مجرد المماطلة، على أمل تحقيق تطور إيجابي – الأمر الذي نجح بالفعل أكثر من مرة. ومع ذلك، يكتب إكرام، “لا يمكن لمصر بناء مستقبل اقتصادي آمن على افتراض استفادتها إلى أجل غير مسمى ممّا يتحقق عن طريق الصدفة.”

بقراءة كتاب إكرام، لا يسعني أن أشير إلى عدد ملاحظاته حول صعوبات إدخال الإصلاحات التي قد تنطبق على مجال التعليم أيضًا. في النهاية، تتمثل إحدى النقاط المهمة التي يطرحها في أن ما يهم، أكثر من “سداد” الإصلاحات نفسها، إن لم يكن أكثر، هو البيئة العامة التي يتم إدخالها فيها والتي يتوقع أن تتجذر فيها.

على سبيل المثال، يعترف إكرام بأن السياسات الرامية إلى تحرير الاقتصاد (جعله أكثر ليبرالية) ـ مثل سياسة “الأبواب المفتوحة” للرئيس السابق أنور السادات تجاه الاستثمار الأجنبي، أو موجة الخصخصة المثيرة للجدل في تسعينات القرن الماضي ـ غالباً ما تخلق ببساطة احتكارات خاصة عوضا عن الاحتكارات العامة، لأنها لم تكن مصحوبة بمجموعة من الإجراءات لخلق قدرة تنافسية حقيقية، مثل تقوية النظام القضائي التجاري، والنظام الضريبي، والبيروقراطية الحكومية وجعلها أكثر إنصافًا وشفافية.

بشكل عام، يلاحظ إكرام أن الإصلاحات ستكون أكثر نجاحًا إذا ما تم إقناع الجمهور بأن عبء إصلاح معين سيتم اقتسامه بالتساوي، وإذا ما حصل أولئك الذين سيعانون من العواقب على تعويضات كافية؛ وإذا ما كانت النتائج الإيجابية للإصلاح عاجلة وليست بعيدة؛ وإذا ما تصرفت السلطات بطريقة متسقة وقامت بمتابعة خططها.

لسوء الحظ، وبالنظر إلى المرجعية القيّمة لهذا الكتاب، إلا أن القسم الأخير منه، حول الأمور المعاصرة، مخيّب للآمال.

يصف إكرام الأحداث منذ انتفاضات الربيع العربي في عام 2011 بشكل سطحي وسريع للغاية. ولم يذكر أحد أبرز ملامح المشهد الاقتصادي الحالي، المتمثل في التعدي الجوهري للجيش وأجهزة المخابرات على الاقتصاد منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، وهو ما تم توثيقه على نطاق واسع.

كل هذا مفهوم إلى حد ما، لكن العلاقة ذاتها بين الاقتصاد والسياسة هي ما يجعل الاقتصاد موضوعًا مشحونًا في مصر اليوم.

مع ذلك، يخرج هذا التحفظ نفاد حجج إكرام في نهاية كتابه.

في الخاتمة، يستعرض المؤلف العديد من الوصفات والنماذج من أماكن أخرى في العالم من أجل الإصلاحات الاقتصادية والتنمية. وفي مناقشة لاقتصادات النمور الآسيوية، مثل اقتصادات الصين وهونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان،يوضح أن النجاح الاقتصادي لتلك البلدان كان مدعومًا بصفقات بين السلطات والسكان: التنمية الاقتصادية العادلة تماماً في مقابل الحد من الحريات السياسية.

يشير إكرام إلى أنه من غير المحتمل أن يقبل المصريون بالمقايضة بين المشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية. صدمتني هذه الملاحظة وبدت لي مثيرة للريبة وقديمة بالفعل. تتمثل المأساة في أنه، وفي الوقت الراهن وبمواجهة كل من القمع السياسي والتقشف الاقتصادي، لا يتم عرض مثل هذا الخيار.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى