مقالات رأي

باحثون في قفص الإتهام بالتجسس

بعد سنوات من العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم أكن مندهشة من قضية ماثيو هيدجز، طالب الدكتوراه البريطاني الذي اعتقل في الإمارات العربية المتحدة في أيار/ مايو واتهم بالتجسس. فبعد ما يقرب من قضائه ستة أشهر في السجن ومحاكمة خاطفة وإدانة، تم العفو عن هيدجز في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر وسُمح له بالعودة إلى بلاده. (اقرأ المقال ذات الصلة، “تداعيات إدانة باحث بالتجسس في الإمارات على البحوث“).

لقد تم اتهامي، أنا نفسي، كصحافية، بالتجسس أكثر من مرة. وقد حدث ذلك، في إحدى المرات، أثناء متابعتي لتظاهرة، بينما كنت أسير في أحد الشوارع في القاهرة وأنا أحمل ميكروفونًا في يدي. قال أحد المارة، “جاسوسة!”.  ويمكن لتعريفه لـ “التجسس” أن يتم بشكل علني، إلى جانب الزملاء، في حدث عام، ليتم بثه في جميع أنحاء العالم. في الواقع، اختتمت ذلك بتوثيق شيء اعتبره مثيرا للقلق وغير مؤثر.

أجرى هيدجز، طالب الدكتوراه في جامعة درهام، في إنجلترا، أبحاثًا عن الإخوان المسلمين؛ وقد ركز بحثه الحالي على “استراتيجية الأمن القومي للإمارات العربية المتحدة في أعقاب الربيع العربي”، بحسب حسابه على موقع لينكد إن. لا تعتبر هذه الموضوعات من المجالات التي يمكن مناقشتها بحرية وجدية من قبل الأكاديميين أو أي شخص في الإمارات اليوم. كان هيدجز واضحا في كون اهتماماته أكاديمية، وأنه لم يكن يتجسس على أحد – ويبدو أن فشل الحكومة البريطانية في تأييد تصريحاته قد أخرت إطلاق سراحه.

في جميع أنحاء المنطقة، شهدت الدول البوليسية المتشككة حالة عميقة من عدم الاستقرار بسبب الربيع العربي وهي الآن في موقف هجومي للقضاء على أي مظاهر للمعارضة. وقد استثمرت هذه الدول بشكل كبير في المراقبة، مما شجّع على بروز الاستبداد وتدهور حماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.

ما تغير في السنوات الأخيرة هو أن الحماية الضئيلة التي اعتاد الدارسون الأجانب الاستفادة منها قد تصدعت. لقد رأينا ذلك بالفعل من خلال مقتل جوليو ريجيني، طالب الدراسات العليا الإيطالي في مصر عام 2016، بشكل صادم (القضية التي اتهم القضاء الإيطالي فيها للتو خمسة مسؤولين أمنيين مصريين).

*

أحيانا، يقوم الصحافيون والأكاديميون بالتجسس بالطبع. بدأ توماس إدوارد لورنس (“لورنس العرب”) عمله كآثاري وقد تم تجنيده من قبل الاستخبارات العسكرية البريطانية في عام 1914. بذلك أجرى مسحًا لصحراء النقب لصالحهم تحت غطاء البحث الآثاري.

https://www.bue.edu.eg/

كما كان الباحثون الأميركيون يتصرفون كجواسيس خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة. وقد تواصلت أجهزة الاستخبارات معهم مرة أخرى مع انطلاق “الحرب على الإرهاب” التي شنها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن.

وكان مجالي علم الآثار والأنثروبولوجيا متورطين في ذلك بشكل خاص، وقد أظهرا عنادا وقوة خلال المناقشات حول هذه القضية. حيث يجادل بعض العلماء بأن من واجبهم الوطني، ومن حقهم، مساعدة مصالح الأمن القومي. ويرى آخرون بأن أي تداخل بين جمع المعلومات الاستخبارية والأبحاث العلمية يدمر الثقة بين الأكاديميين والمصادر المحتملة ويلوث الأعمال البحثية بفعل أجندات خفية.

كان هذا موقف عالم الأنثروبولوجيا فرانز بواس، الذي استنكر في عشرينات القرن العشرين أي باحث جاسوس بصفته شخص “يمارس البغاء العلمي بطريقة غير مقبولة”.

ترعى وكالات الاستخبارات والدراسات العسكرية الأبحاث وتنظم المؤتمرات. وعندما يفعلون ذلك خلسة (من دون معرفة الأكاديميين، أو عندما يقوم الباحثون بمقابلة أشخاص غير مدركين لمصدر تمويل الباحثين أو الغرض الاستراتيجي من عملهم)، تكون تلك الوكالات قد تجاوزت بوضوح الخط إلى عمل تجسسي، وتقوم بتعريض العلماء والمصادر وسلامة البحوث الأكاديمية للخطر.

*

ومع ذلك، ماذا عن الباحثين الأخلاقيين والشفافين والمهنيين الذين يواجهون، رغم ذلك، اتهامات بالتجسس؟

طوال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قامت عالمة الأنثروبولوجيا كاثرين فيرديري بإجراء أبحاث ميدانية في رومانيا. وعندما أُزيحت السرية عن أرشيف الشرطة السرية للديكتاتور السابق نيكولاي تشاوشيسكو، اكتشفت الباحثة ملفًا كبيرا يخصها، يتضمن صورًا وتسجيلات وتقارير قدمها مخبرون من بينهم أصدقاء وعشاق. اتضح بأن الشرطة السرية الرومانية كانت تتجسس عليها لأنها اعتقدت بأنها جاسوسة.

في كتابها الأخير “حياتي كجاسوسة: تحقيقات في ملف الشرطة السرية“، تتصارع فيرديري مع الرواية البديلة بخصوصها والتي قام ضباط المخابرات الرومانية بكتابتها على مر السنين. تشكلت تلك القصة بمرور الوقت، لتجد حججا جديدة حول أسباب ضرورة كونها جاسوسة. ففي عام 1984، وبعد التخلي عن العديد من النظريات السابقة، كتب ضباط الاستخبارات: “إنها تجمع معلومات ذات طابع اجتماعي سياسي، وتقوم بتفسيرها بطريقة مزورة وعدائية. على الرغم من أن الأمر ليس سرًا، لكن [يمكن] استخدام ذلك ضد مصالح بلادنا”.

في كتابها الذي نشرته مطبعة جامعة ديوك في أيار/ مايو، تواجه فيرديري تعريفًا واسعا للغاية للتجسس لدرجة أنه يشمل عملها الإثنوغرافي بسهولة. لم تكن الباحثة عميلة لحكومة الولايات المتحدة، لكنها قامت بالفعل “بجمع معلومات ذات طابع اجتماعي سياسي”. كما أن بعض أساليبها العلمية – التي تتصل بسرية بأشخاص يمتلكون معلومات مفيدة – صدمت جواسيس رومانيا في أنها تشبههم.

في أي دولة بوليسية، وحيث لا تُحترم الحرية الأكاديمية، قد يكون “التجسس” أسهل طريقة تفهم المخابرات من خلالها العمل الميداني. يبدو كل شيء وكأنه تجسس بالنسبة لدولة غارقة في المراقبة.

في مقالة نُشرت عام 2006 بعنوان “ليست هناك إجابات سهلة: أخلاقيات البحث الميداني في العالم العربي“، عالجت عالمة السياسة شيلا كارابيكو مسألة كيفية فهم العمل الميداني في المنطقة. كتبت:

“يخلق انتشار مؤسسات الأمن القومي في العالم العربي الشكوك والمخاطر. ونادرًا ما تكون الصراحة لوحدها بخصوص بحث المرء كافية. فبالنسبة إلى الجيران ومحلات البقالة في الحي وغيرهم ممن لا يحملون شهادات جامعية، تبدو كلمة “بحث” بمثابة “تحقيقات”، وقد يبدو الأمر وكأننا نتجسس بالفعل. ويبدو تحدث اللغة العربية بطريقة مكسّرة مريبًا، فيما يمكن أن يجعل التحدث باللغة العربية بشكل جيد الناس أكثر حذرًا. سيفهم القليل فقط بأنه قد تم استهدافهم من خلال تقنية أخذ العينات العشوائية. وكلما كان التحقيق أكثر منهجية وأكاديمية، كلما بدا وكأنه قصة مخادعة. على أي حال، يقوم عملاء وكالة المخابرات المركزية الحقيقيين بكتابة قصص تغطية أيضا.”

ناقشت كارابيكو أيضاً ما إذا كان تقاسم البحث الدراسي مع حكومة الباحث (والتي قد تكون إمبريالية) يمكن أن يعمل على تثقيف صناع القرار السياسي، أو أنه سيكون على الدوام شكلاً من أشكال جمع المعلومات الاستخبارية بشكل غير مباشر. كتبت كارابيكو:

“هناك أيضًا حاجة ملحة وواجب أخلاقي لتثقيف صانعي السياسة. […] هل يجعل تقاضي الأجر، أو كتابة تقرير، أو تقديم بيان موجز، أو حضور مؤتمر، من المرء بمثابة عميل استخبارات من النوع الذي يشتبه فيه بعض الجيران والمؤسسات الأمنية العربية طوال الوقت؟ أليس الأمر في نهاية المطاف استخراج للمعلومات بشكل استبدادي؟ أو أن في إمكاننا، على النقيض من ذلك، موازنة التضليل والنبضات الإمبريالية؟ أم أننا ببساطة سنتعرض للضرر سواء أفعلنا فعلنا ذلك أو لم نفعل؟”

*

أعتقد أنه سيكون هناك دائما بعض أشكال التجسس على هامش العمل الأكاديمي. وهذا هو الثمن الذي يتوجب دفعه مقابل انفتاح الجامعات، بهدف خلق المعرفة وانسيابية المعلومات. وسيتعين على الباحثين الغربيين في العالم العربي وفي أماكن أخرى التعامل مع نتائج عملهم من أجل مصادرهم، ومع  إمكانية الاستخدام المحتمل لهذه المعلومات من قبل حكوماتهم.

يتحمل الباحثون مسؤولية الشفافية حول كيفية استخدام أبحاثهم. لكن للحكومات مسؤولية أكبر بكثير في عدم اتهامهم بـ “التجسس” عندما يصادفون باحث يطرح أسئلة يفضلون عدم سماعها.

تعتبر الدول التي تتجسس على العلماء مصدر قلق أكبر بكثير من العلماء الذين يتجسسون على الدول. في العالم العربي اليوم، أصبح كل شيء مستورد تقريبا موضوعًا “حساسًا”. تقوم الدول البوليسية بتحويل كل شخص إلى مخرب، أو جاسوس، أو شرطي أو مخبر. فقد تم الإبلاغ عن هيدجز من قبل شخص قام بمقابلته؛ وتم التسجيل لريجيني من قبل أحد مصادره، والذي كان مخبرا بدوره.

تنشغل السلطات في معظم الدول العربية بخلق بيئة تكون فيها كل الأسئلة خطيرة، والجميع مشتبه بهم.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى