أخبار وتقارير

فنان عراقي يستكشف الآثار الروحية للهجرة

تستكشف أعمال الفنان العراقي صادق كويش الفراجي تجربة متكررة للغاية في عالم اليوم – ألا وهي تجربة امتلاك أماكن عديدة بإمكان المرء أن يعدها وطنا وحيث يشعر بالإرتياح مع غياب الإستقرار الروحي.

لا تعتبر هذه التجربة نتيجة لأزمة اللاجئين فقط، بحسب الفراجي، بل بسبب العدد المتزايد من الأشخاص الذين أجبروا على ترك مسقط رأسهم خوفًا من الاضطهاد العرقي أو البحث عن فرص اقتصادية أفضل. ويقول بأن التجربة يمكن أن تدور بين أجيال متعددة، كما حدث مع أسرته.

يعتبر الفراجي، وهو فنان وسائط متعددة يعمل غالبًا في مجال الرسومات واللوحات ومقاطع الفيديو المتحركة، مهاجرًا هو أيضًا، حيث انتقل إلى هولندا من بغداد في عام 1996.  درس الفراجي الفن والفلسفة في وطنه العراق قبل انتقاله إلى هولندا. وقد خلّف وراءه مكتبة مؤلفة من أربعة آلاف كتاب، “يتحدث معظمها عن فلسفة النفس”، كما يقول بروح دعابة ناقدة للذات.

وبالاعتماد على تاريخ نزوح أسرته، يقوم الفراجي بعمل يهدف لإحداث صدى واسع النطاق مع المشاهدين. قال، “ليس الهدف من عملي سياسيًا، إنه يتعلق بتقديم أسئلة حول ما يحدث للذات عندما يُجبر المرء على ترك وطنه والإنتقال للعيش في مكان آخر. أعتقد أن هذا شيء لا يمكن لأحد علاجه، وأنت تتحمل هذا العبء إلى أي مكان يمكنك أن تسافر إليه أو تستقر فيه بعد ذلك. المسألة تبقى عالقة في قلب الشخص بشكل دائم.”

قلب في وطنين

لا يزال عمل الفراجي يشير إلى الطريقة التي يتواجد من خلالها قلبه في كل من هولندا والعراق. على سبيل المثال، استلهم الفنان فيلمه المتحرك، قارب علي، من لقاءه مع ابن أخيه، علي، في العام 2009 عندما زار الفراجي بغداد بعد وفاة والده وكان على وشك العودة إلى أمستردام. فعلى ورقة عادية وضعت في مظروف، قام ابن أخته برسم قارب وكتب عبارة “أتمنى أن يأخذني هذا القارب معك”.

وجد عمل الفراجي جمهوراً واسعًا. ويحضّر حاليًا لإقامة معارض متعددة في السنة القادمة، بما في ذلك معرض في الشقة 22 في الرباط، وهو مساحة فنية معاصرة في مراكش. يمتلك الفنان حاليًا تركيب كبير مؤلف من تسعة مقاطع فيديو متحركة في معرض كوينزلاند للفنون في بريسبان، بأستراليا. وقد تم عرض أعماله في معرض آرت دبي، كما تم عرض العمل في الجناح العراقي في بينالي البندقية وتم اقتناءه من قبل المتحف البريطاني.

وكان قد انتهى للتو من معرض، “النهر الذي كان في الجنوب”، في غاليري الأيام في دبي. ضمّ المعرض العديد من العناصر والزخارف الجمالية التي تتكرّر كثيرًا في أعماله: مجموعة محدودة من الألوان؛ تقديم بسيط – غير بدائي – لشخصيات بشرية؛ وروايات رمزية تشبه الأسطورة. قال، “لقد انتجت العديد من رسوماتي باستخدام الحبر الأسود أو الطلاء الأسود، وربما يكون في ذلك إشارة عاطفية إلى طفولتي عندما كان يتم إحياء ذكرى عاشوراء [يوم حداد للشيعة على وفاة الحسين، حفيد النبي، في كربلاء عام 680 ميلادية] إذ كانت والدتي تشتري مسحوق أسود من السوق لصبغ ملابسنا حيث كانت تلك أرخص وسيلة لمنح الأطفال ملابس سوداء في تلك الفترة من العام المشبعة بالعواطف الثقيلة.”

يتضمن عمل “النهر الذي كان في الجنوب” مقطع فيديو واحد وسلسلة من اللوحات بالأبيض والأسود بأسلوب كئيب ولكنه شاعري تم تنفيذه بالكامل بحبر أسود على قماش أبيض على نطاق واسع بشكل مذهل. يهيمن حجم الصور وحدتها الصارخة على المشاهد، مثل الفيلم المثير الذي يبقى في أذهان المشاهدين بعد فترة طويلة من انتهاء العرض. يمكن اعتبار المعرض مرثاة لوالد الفراجي وجده، الذي يحضره كثيرًا في حديثه.

لكن المعرض كان أيضًا بمثابة تمرين شخصي “للتعامل مع الإحساس الدائم بالتشرد الذي لن يتخلص منه أبدًا. فعلى الرغم من سنوات عديدة بعيدًا عن العراق، يحمل المرء هذا الإحساس بأنه خارج مكانه بشكل دائم، وأنه ليس في وطنه أبدًا لا في الخارج ولا في العراق.”

صورة الجد

تحتوي الأعمال الفنية على العديد من الوجوه لرجال ونساء يرتدين أغطية الرأس والحجاب التقليدي، لكنها لا تصوّر الأشخاص الذين عرفهم الفنان، بل وجوه تمثل العراقيين العاديين الذين يستحضرهم عندما يتخيل مواطنيه: وغالبًا ما يتميزون بسمات قوية، وحواجب كثيفة، وعيون غائرة. وحتى عند محاولة رسم أفراد الأسرة، كان عليه أحيانًا اللجوء إلى خياله. قال، “لم أر أبدًا صورة لجدي – ولم يكن لدى أحد من أفراد الأسرة صورة واحدة – لذلك عندما أرسم الرسومات المتحركة اللازمة لتركيب الفيديو، اضطر إلى رسم الوجه استنادًا إلى الوجوه التي كانت تحيط بي.”

لم يمنح الفيديو ذو الدقائق الخمسة في “النهر الذي كان في الجنوب” للمعرض اسمه فحسب، بل قام برواية التاريخ العراقي للإقطاع الزراعي والهجرة. يروي الفيديو قصة عائلة على خلفية التاريخ العراقي بينما ينظر للقصة رجل وامرأة أكبر سناً، فيبتسمان أو يبكيان بينما تتكشف القصة. والفيديو عبارة عن رسوم متحركة انشئت من خلال وضع مئات الرسومات الفنية بالفحم فوق بعضها البعض، فيتحول البشر إلى زهور أو تصبح الزهور ثعابينًا.

قال الفراجي “أفكر في نفسي باعتباري حكواتي تقليدي، أو راوي قصص مثل أولئك الذين كانوا يجلسون في المقاهي في بغداد ويقصّون حكايات طويلة.” تضم هذه القطعة روايتين: توضح الرواية الأولى الانهيار العاطفي لرجل وامرأة يشاهدان مشهدًا ريفيًا رعويًا لمُزارع يروي الأرض التي تتحول إلى منظر طبيعي يستهلكه وجه رجلٍ كبير وغاضب. يتم ربط الشخص بشجرة ويتعرض للجلد، ثم يتحول إلى أشخاص كُثر يغادرون حاملين حقائبهم. ويشاهد الرجل والمرأة اللذات يراقبان المشهد تدمير الأراضي الزراعية وفرار الحشود من المنطقة. غالبًا ما يتم عرض القوة البسيطة للرواية من خلال تصوير الفنانين للتعبيرات الحزينة على وجوه الشخصيات.”

“أفكر في نفسي باعتباري حكواتي تقليدي، أو راوي قصص مثل أولئك الذين كانوا يجلسون في المقاهي في بغداد ويقصّون حكايات طويلة.”

صادق كويش الفراجي-
 فنان وسائط متعددة يعمل غالبًا في مجال الرسومات واللوحات ومقاطع الفيديو المتحركة

تذكرنا أفلام الفراجي المتحركة بأعمال الفنان الجنوب أفريقي ويليام كنتريدج الذي يستخدم مقاطع فيديو تعتمد على رسومات الفحم الأسود لاستكشاف تاريخ بلاده السياسي والاجتماعي. لكن عمل الفراجي يؤكد على الانعكاسات العاطفية على النفس من الخروج القسري من الوطن. وفي سياق أزمة اللاجئين، ينتقد عمله التركيز على النزوح الجسدي بدلاً من الرفاه العاطفي طويل الأمد للنازحين.

بمرور الوقت، ومع تحول الاستكشاف الأكاديمي للهجرات البشرية من تتبع الحركات البشرية إلى استكشاف التداعيات العاطفية والعقلية والروحية طويلة الأمد، قد تكتسب أعمال صادق كويش الفراجي ونظيراتها شعبية وقوة للمساعدة في بدء مثل هذه المحادثات المهمة.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى