أخبار وتقارير

فن الاحتجاج يعيد الحياة إلى قلب بغداد

بالتزامن مع الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي اجتاحت بغداد منذ تشرين الأول/ أكتوبر، خرج العشرات من الفنانين الشباب إلى الشوارع مزودين بأسلحتهم المفضلة: بخاخات الطلاء وفُرَش الرسم. مفعمين بمشاعر الغضب والأمل وباستخدام فن الاحتجاج، حوّل الفنانون نفقًا مهملاً منذ فترة طويلة يمر تحت ساحة التحرير في المدينة إلى معرض فني ثوري نابض بالحياة من خلال الجداريات والبيانات المرسومة على جدرانه.

تواجد سيزر الوردي، المحامي والمصور البالغ من العمر 28 عامًا، هناك منذ البداية. في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، ووسط الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع الذي استخدم ضد المتظاهرين، تحدّى الوردي شرطة مكافحة الشغب العراقية بالفن، وأخذ قطعة قماش صغيرة وكتب عليها كلمة “الحرية” باللون الأحمر.

قال “جسدتُ كل مشاعري ووضعت روحي بالكامل في عمل الغرافيتي ذلك.”

تؤكّد معظم الجداريات في نفق السعدون ببغداد على الوحدة العراقية، فضلاً عن إدانتها للطائفية والدعوة إلى السيادة الوطنية ووضع حد للتدخلات الأجنبية. تُشيد الجداريات أيضًا ببطولات سائقي التوك توك الذين يساعدون في نقل المتظاهرين المصابين إلى المراكز الطبية. كما تُعرب عن أسف الفنانين إزاء صمت العالم ضد حملة القمع العنيفة للاحتجاجات، التي أودت بحياة 600 شخص حتى الآن، بحسب منظمة العفو الدولية. (اقرأ التقرير ذو الصلة: احتجاجات الطلاب في العراق: جرأة وإصرار على مستقبل أفضل).

قال الوردي “شعرتُ بالحاجة لوجود ثورة غرافيتي حقيقية في بغداد. تعرفتُ على العديد من الرسامين وبدأت في تنظيمهم وجمع الأموال اللازمة لشراء الدهانات التي يحتاجونها.” وأضاف مبتسمًا، “لقد ووجدتُ نفسي بمثابة مُرشد. ركزتُ على فن الشارع باعتباره وسيلة قوية للتعبير عن مطالبنا بسلمية.”

من بغداد إلى بيروت والقاهرة، أصبح فن الاحتجاج – ولاسيما فن الغرافيتي – أحد الأدوات الرئيسية للمتظاهرين والفنانين للتعبير عن الرسائل السياسية والهموم والمطالب.

خلال احتجاجات الربيع العربي في مصر عام 2011، غطى الفنانون مساحات واسعة من الجدران المحيطة بميدان التحرير بالقاهرة بنصب تذكارية لضحايا القمع العسكري ونصوص مستوحاة من هتافات المحتجين. إذ أصبح الغرافيتي آلية يُنظر من خلالها لهوية وطنية ناشئة.

الآن، تلعب هذه الديناميكية دورها في بغداد، حيث يعمل فن الاحتجاج على تحويل واقع جدران نفق السعدون والأسطح الخرسانية الأخرى.

بالتأكيد على هويتهم الوطنية، استخدم بعض الفنانين العراقيين رموزًا من بلاد ما بين النهرين القديمة في جدارياتهم، حيث مزجوا صور الثيران المجنحة الآشورية من القرن السابع قبل الميلاد مع عربات التوك توك المعاصرة، أو قاموا بتصوير الأميرة السومرية بو-آبي (2600 قبل الميلاد) وهي ترتدي قناع واقي من الغاز مثل الأقنعة التي يستخدمها المتظاهرون لمقاومة أبخرة قنابل الغاز المسيل للدموع التي ألقيت عليهم من قبل قوات الأمن.

“شعرتُ بالحاجة لوجود ثورة غرافيتي حقيقية في بغداد. تعرفتُ على العديد من الرسامين وبدأت في تنظيمهم وجمع الأموال اللازمة لشراء الدهانات التي يحتاجونها.”

سيزر الوردي
محامي ومصور

يستخدم أسامة آرت، وهو فنان غرافيتي بغدادي يبلغ من العمر 24 عامًا، الرموز المسمارية، وهو نظام الكتابة الذي ابتكره السومريون القدماء، لكتابة كلمتي “سلام” و”حُب” بالعربية.

قال أرت “استغرق الأمر مني سبع ساعات من العمل دون توقف لأكتب كلمة “سلام” باستخدام الرموز المسمارية في عمل ضخم على مساحة 150 قدم تقريبًا فوق سطح المرآب.” وقد يكون هذا العمل أكبر رسم لكلمة السلام في العالم باللغة العربية بالخط المسماري.

سافر سجّاد مصطفى، وهو خطاط شاب، عدّة مرّات من البصرة إلى بغداد، على بعد أكثر من 300 ميل، للمشاركة في هذا المهرجان الفني التلقائي في الشارع. استخدم مصطفى الخط السُنبلي، وهو نموذج من الخط تم تطويره في إسطنبول عام 1914، لصنع قطعة تُدرج أسماء 50 من شهداء الاحتجاجات. قال، “كان عملي لتخليد أولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجلنا.”

كما تميّزت التظاهرات في بغداد – وهي الأكبر منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 – بمستوى غير مسبوق من مشاركة المتظاهرات من النساء. ففي 13 شباط/ فبراير، خرجت المئات من النساء العراقيات إلى الشوارع، وبعضهن يرتدين ملابس زهرية أو بنفسجية، لتحدي دعوة رجل الدين المثير للجدل مقتدى الصدر لفصل الرجال والنساء في المسيرات.

علاوة على ذلك، تُشيد العديد من اللوحات الجدارية بقوة النساء وإسهاماتهن، في دعوة إلى المساواة بين الجنسين وترديد صدى الصور الشهيرة من الماضي مثل روزي المبرشمة.

قال الوردي، المحامي والمصور البغدادي، “ألهمني ملصق جي. هوارد ميلر”نستطيع فعلها” وقمت بمساعدة الرسام لرسم نسخة من الملصق وإضافة لمسة وطنية برسم العلم العراقي على خد روزي المبرشمة الخاصة بنا.”

“استغرق الأمر مني سبع ساعات من العمل دون توقف لأكتب كلمة “سلام” باستخدام الرموز المسمارية في عمل ضخم على مساحة 150 قدم تقريبًا فوق سطح المرآب.”

أسامة آرت
 فنان غرافيتي

مجموعة من الصور التي تعكس فن الاحتجاج في شوارع بغداد

مسرح التحرير

لم تكن الفنون البصرية وحدها متنفسًا للتعبير السياسي.

أصبحت ساحة التحرير في بغداد فجأة المسرح المفضل لكحيل خالد، وهو مخرج انضم إلى زملائه لتأسيس مجموعة تسمى مسرح التحرير. يساهم المشروع في إشراك الناس وتثقيفهم حول القضايا الاجتماعية من خلال المسرحيات القصيرة التي يقوم الفريق بإعدادها وتقديمها في ذات المساء أو في اليوم التالي.

عاد خالد مؤخرًا من المملكة المتحدة، حيث حصل على درجة الماجستير وأنشأ شركة باسم مسرح المنطقة الحمراء “Red Zone Theater”، في إشارة ساخرة للمخاطر التي يواجهها معظم البغداديين الذين يعيشون خارج الجيب المحصن الصغير المعروف باسم المنطقة الخضراء.

قال “يمكنني تقديم الفن في كل مكان. في المملكة المتحدة، يمكنك بناء اسمك، بينما في العراق، ستقوم ببناء اسمك ومجتمعك، لأن العراقيين بحاجة إلى المسرح.”

عاد خالد إلى بغداد للعمل مع الشباب والأطفال العراقيين. قال “هناك العديد من القضايا التي يجب التحدث عنها: الجنس، الدين، السياسة، إلخ. حتى لو اختلفوا مع آرائي، فمن المهم للغاية التحدث عن ذلك وجعلهم يفكرون في قضايا مثل حقوق المرأة وحقوق المثليين وحتى حقوق الحيوانات.”

انضم محترفون مشهورون إلى الممثلين الشباب وحتى المتظاهرين في عروض ساحة التحرير، حيث تناولوا مواضيع مثل العنصرية والطائفية واتهامات التأثير الأجنبي في الحكومة العراقية.

يشير خالد إلى أن الفن ليس إلّا أحد الأنشطة التي تُساعد على استمرار الاحتجاجات.

قال “هناك حوالي 500 خيمة في التحرير. إنهم يقدمون الموسيقى والسينما والمسرح والوشم والحرف اليدوية. كل شيء هناك مجانا. في غضون ساعات، ذابت جميع الاختلافات الطائفية والعرقية والمجتمعية. تم استخدام الطعام المجاني والفن ومحلات الحلاقة وخدمات غسيل الملابس لمساعدة الناس على البقاء وزيادة زخم الاحتجاجات.”

كانت ردود أفعال الجمهور على مسرحيات مجموعته مبهجة للقلب. قال “احتفوا بمسرحياتنا بفرح. شعرتُ حينها كيف أن للمسرح الحقيقي قدرة مُقدسة على إشراك الناس. بعد كل عرض، كان الناس يهتفون للعراق ويلتقطون صور شخصية مع الممثلين الهواة كما لو كانوا من نجوم هوليوود.”

 موسيقى في الشوارع

تخللت العروض الموسيقية أيضًا قلب الاحتجاجات، وأعادت إحياء شارع الرشيد في بغداد، الذي كان يزخر في الماضي بدور السينما والمسارح والمقاهي ومحلات الحرفيين.

“يمكنني تقديم الفن في كل مكان. في المملكة المتحدة، يمكنك بناء اسمك، بينما في العراق، ستقوم ببناء اسمك ومجتمعك، لأن العراقيين بحاجة إلى المسرح.”

كحيل خالد  
مخرج مسرحي

لعب الوردي دورًا في ذلك من خلال إطلاق “منصة حياة الموسيقية” كمسرح أداء مرتجل على الدرجات الأمامية لمنزل كان أنيقًا في السابق. قال “أحببت المكان القديم والمميّز. أطلقتُ عليه اسم منصة حياة، لأن الموسيقى هي الحياة.”

طوال ثلاثة أسابيع، جاء الموسيقيون المحترفون والهواة إلى تلك السلالم وعزفوا للناس. قام أمين مقداد، عازف الكمان الموصلي، بأداء أغنية الاحتجاج الإيطالية الشهيرة “بيلاّ تشاو” هناك. كما أنتجت مجموعة أخرى من مغنيي الموصل نسخة عراقية من الأغنية بعنوان “بلايا جارة“، بمعنى “ليس هناك حل”.

قدم مقداد أيضًا أغنيات وأغانٍ شعبية عراقية لمطربات من المشاهير مثل فيروز وسيتا هاكوبيان. قال، “أحاطني الناس بالحب، وأقبلوا على الموسيقى. هذا دليل على مدى سلمية هذه الاحتجاجات. أنا أنتمي إلى هذا المجتمع الذي يمجّد الموسيقى. هذه الثورة ثمرة سنوات عديدة من الوعي بُني في أعقاب الحرب الأهلية والحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.”

تعتقد نبراس هاشم، الفنانة والأستاذة في معهد الفنون الجميلة في بغداد، أن الاحتجاجات هي التي خلقت روح الفن والابتكار هذه عندما بحث الشباب عن شيء يمثلهم.

قالت “إنها الرسالة الأكثر أهمية التي يتم إرسالها إلى العالم حول ثقافة الشباب العراقي ووعيهم. جميع أعمالهم ذات قيمة فنية وتتضمّن رسالة صادقة.”

مع ذلك، ينتاب العديد من الفنانين شعور بالقلق من أن تؤدي أعمالهم الفنية إلى اعتقالهم أو إلحاق الأذى الجسدي بهم.

قال خالد، المخرج المسرحي، “إنها تجربة جديدة بالنسبة لي، أن أتحقق من المرآة الجانبية لسيارة الأجرة لمعرفة ما إذا كان شخص ما يتبعني. قد يتم اختطاف أي شخص تعرفه بسبب كلمة واحدة. لقد اتفقتُ وأصدقائي على الاستمرار إذا ما حدث شيء سيء لأيّ منّا. التفكير في الاختطاف مخيف أكثر من الموت نفسه.”

لكن الوردي لا يزال متفائلاً. قال ” كسبنا جيلا قويا وجريئا لا يمكن إسكاته، جيلاً قادرًا على مواجهة وحشية السلطات. سنرى ثمار ذلك على مدى السنوات القليلة المقبلة. المستقبل سيكون مختلفا تماما.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى