مقالات رأي

هل نحن بحاجة إلى كرة بلوريّة للتنبؤ بمستقبل قطاع التعليم العالي في لبنان؟

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

ملاحظة المحرر: تم نشر المقال أدناه أولاً من قبل معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت.

إنّ تفشي فيروس كوفيد-١٩ بالإضافة إلى الأزمة الاقتصاديّة التي يمرّ بها لبنان سيؤثران حتمًا على قطاع التعليم العالي في المرحلة المقبلة، ممّا يطرح إشكاليّات متعدّدة حول مستقبل هذا القطاع، هل سنشهد على إقفال المزيد من الجامعات أو دمجها؟ كيف ستتمكّن مؤسّسات التعليم العالي من التواصل مع التلاميذ بعد أن أُجبرت على إقفال أبوابها للحفاظ على صحّة وسلامة المواطنين. تبحث الجامعات في لبنان حاليًا عن إجابات لهذه الأسئلة في ضوء الضائقة الاقتصادية التي يمرّ بها البلد والتي ألقت بظلالها على الجميع (بطريقة أو بأخرى) من دون استثناء.

لوحظ تأثير الأزمة الاقتصادية على التعليم العالي في عدد من البلدان حول العالم. حيث تكبّدت كافة الجامعات في البلدان المأزومة كفنزويلا وشرق آسيا وحتى في الولايات المتحدة من تداعيات الانتكاسة الاقتصادية التي دفعت مؤسّسات التعليم العالي إلى اتّخاذ إجراءات مختلفة استنادًا إلى ما هو مناسب لها. وتفاقمت هذه الأزمة بسبب تفشّي وباء كورونا على الصعيد العالمي حيث أُجبر أكثر من ٧٠٠ مليون طالب على البقاء في منازلهم. أمّا في لبنان فإنّ الأزمة مضاعفة كَون بلدنا يواجه ضغوطات ماليّة منذ العام ٢٠١٥ تصاعدت وتيرتها بشكلٍ خطير اعتبارًا من شهر تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠١٩، أضف إلى ذلك مؤخرًا أزمة الكورونا. وقد أثّرت هذه الضغوطات بشكلٍ رئيسي على الفئات ذات الدخل المتوسّط الذين يشكّلون النسبة الأكبر من زبائن التعليم العالي. حدّت الأزمة من القدرات الإنفاقيّة لدى العائلات، خاصةً لناحية تغطية كلفة الصحّة والتعليم، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى انخفاض الدخل. فمن المُتوّقع أنّ تعيد الأسر النظر في الاستثمار في مجال التعليم في سبيل تأمينهم على وسائل العيش. ومع ذلك، قد تتأخر ردة فعل الأسر للأزمة، خاصةً أنّ العائلات في لبنان تقدّر التعليم كما يتّضح من الإنفاق الخاص المرتفع على التعليم في البلاد الذي يقدر بنسبة ١٫٤٥٪ من الناتج المحلّي الإجمالي (مراجعة الإنفاق العام الصادر عن البنك الدولي عام ٢٠١٧).

حاولت الجامعات في لبنان التأقلم مع الأزمة الاقتصاديّة في بداية العام ٢٠١٩، إذ فرض بعضٌ منها دفع الأقساط الجامعية بالدولار، ممّا وضع بعض القيود على الطلّاب الذين لا يدفعون الرسوم في الوقت المُحدّد. إلّا أنّه، لم تتمكن هذا الجامعات من الاستمرار في هذا الإجراء لأنّ الطلاب لم يتمكّنوا من الالتزام به كما أنّ الجامعات كانت حريصة على عدم خسارة الطلّاب. وفي الآونة الأخيرة، بدأت الجامعات في لبنان تطبيق تدابير تقشفيّة مثل تخفيضات الميزانيّة وتخفيض عدد الموظفين وتجميد الأجور والحدّ من المرافق والمعدّات. وفي مثل هذه الحالات، يشعر أيضًا أعضاء هيئة التدريس بأنّهم مُهدّدون، خوفًا من خسارة وظائفهم أو رواتبهم أو مخصّصاتهم. إنّ تقليص التكاليف وخفضها هي إحدى وسائل الاستجابة المؤسسية للأزمة. لذلك، من المهم إعادة التفكير في كيفيّة انعكاس هذه الأزمة الماليّة والاستجابة المؤسّسية على جودة التعليم العالي، لا سيّما في ضوء معدلات الالتحاق المتغيّرة.

من المُبكر الآن التنبؤ بنسبة الالتحاق بالجامعات في لبنان للعام الدراسي ٢٠٢٠-٢٠٢١ إذ يعتمد ذلك على كيفيّة تطوّر الأزمة. إلّا أنّ التقديرات تشير إلى أنّ ٦٠ في المئة من طلّاب التعليم العالي في لبنان مسجّلون في الجامعات الخاصّة غير المجانيّة. حتى الطلاب المُسجّلين في الجامعة اللّبنانية يتكبّدون تكاليف مثل النقل والسكن وما إلى ذلك. ولا يزال التزام الأسر في لبنان تجاه تعليم أولادهم أمرًا

من المهم إعادة التفكير في كيفيّة انعكاس هذه الأزمة الماليّة والاستجابة المؤسّسية على جودة التعليم العالي، لا سيّما في ضوء معدلات الالتحاق المتغيّرة.

مفروغًا منه إلى حدّ الآن. إلّا أنّه من المُتوّقع أن يضعف هذا الالتزام بسبب انخفاض قيمة اللّيرة اللّبنانية وتراجع قدرة الأسر على الإنفاق على التعليم. يعتبر انخفاض معدّل الالتحاق أحد أوّل المؤشرات المُتوّقعة لأزمة التعليم العالي في لبنان. ولا ينحصر انخفاض عدد الطلّاب الملتحقين بالجامعة بانخفاض عدد الوافدين الجدد إلى الجامعة وحسب، إنّما يعود أيضًا إلى زيادة عدد المتسربين. كما أنّ عدم قدرة الطلاب على تسديد قروض التعليم لمواصلة تعليمهم العالي، خاصةً أنّ المصارف قد أوقفت معظم القروض، سيزيد من نسبة التسرب. بالإضافة إلى ذلك، قد نشهد عدد أكبر في نسبة التسجيل في الجامعات اللبنانية وانخفاض في عدد المنتسبين حيث أنّ رغبة الحصول على التعليم العالي تتعارض مع الإمكانيّات الماديّة المتوفرة لتحصيل هذا التعليم. تشير بيانات الإدارة المركزيّة للإحصاء إلى أنّ معدّلات التسرب من التعليم هي الأعلى بين الأطفال والشباب الذين ينتمون إلى الأسر الأكثر فقرًا في لبنان.

إذًا، ماذا سيحدث في العام الدراسي ٢٠٢٠-٢٠٢١؟

قد يكون الأمر مفاجئًا إذ هناك توقعات ألا ينخفض معدّل الالتحاق كما يظن البعض! في الواقع، قد يرتفع معدل الالتحاق لأسبابٍ عدّة. أحد هذه الأسباب هو أنّ الطلاب قد يعودون من الخارج لأنّ الدراسة في الخارج أصبحت مُكلفة للغاية وقد لا تتمكّن الأسر من تكبّد تكاليفها الباهظة بعد الآن. خاصةً في ظلّ صعوبة التحويلات عبر المصارف الدوليّة، ممّا يمنع أهالي الطلّاب من تحويل الرسوم الدراسيّة ومصاريف المعيشة إلى أولادهم الذين يتعلّمون في الخارج. ممّا سيدفع هؤلاء الطلّاب إلى الالتحاق بالجامعات العاملة في لبنان. علاوةً على ذلك، فإنّ انخفاض قيمة اللّيرة يجعل الدراسة في لبنان غير مكلفة بالنسبة للأجانب. كما قدّ يجذب هذا الوضع الطلّاب الأجانب لمتابعة تعليمهم العالي في لبنان، في حال تمكّن لبنان من تأمين حدّ أدنى من الاستقرار السياسي. وأخيرًا، قد يزداد معدّل الالتحاق بالجامعات المحلّية بسبب ارتفاع معدّلات البطالة إذا قد يختار العديد من طلاب المرحلة الثانويّة متابعة التعليم العالي بدلًا من البقاء عاطلين عن العمل. ومع ذلك، فإنّ استيعاب الطلّاب العائدين من الخارج، بالإضافة إلى تخفيضات الميزانيّة وتخفيض عدد الموظفين داخل الجامعات، قد يؤدّي إلى انخفاض مستوى التعليم العالي.

ومن المهمّ أيضًا التنبّه إلى تغيّر أنماط التسجيل. فقد تدفع الأزمة الماليّة الطبقة المتوسّطة، إلى الانتقال من الكليّات والجامعات ذات الرسوم المرتفعة إلى الكلّيات والجامعات ذات الرسوم المُنخفضة والجامعة اللّبنانية. خاصّةً وأن العديد من

يجب أن تكون الجامعات مستعدّة للبحث عن طرق بديلة لتقديم التعليم.

الجامعات ذات الرسوم المنخفضة تقدّم برامج الدعم المادي للطلّاب، حتى قبل الأزمة، ممّا سيشكّل عنصر جذب للطلّاب. ومع ذلك، إلّا أنّ هذه المؤسّسات ذات الرسوم المنخفضة تواجه مشاكل تتعلّق بجودة التعليم الذي تقدمه.

ما الذي يمكن أن تفعله الجامعات للاستعداد للعام الدراسي ٢٠٢٠-٢٠٢١؟

١-  البحث عن بدائل إلكترونيّة

يجب أن تكون الجامعات مستعدّة للبحث عن طرق بديلة لتقديم التعليم. يوفّر التعليم عبر الإنترنت فرصة لخفض التكاليف والوصول إلى عدد أكبر من الطلاب، خاصةً أولئك الذين قد لا يتمكّنون لسببٍ أو لآخر من حضور الفصول الدراسيّة. خلال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة في فنزويلا في العام ٢٠١٦، لم يتمكّن طلّاب الجامعة من حضور الفصول الدراسيّة لأسبابٍ مالية وأسباب أخرى تتعلّق بالسلامة. بدأت العديد من الجامعات في تقديم المحاضرات عبر الإنترنت كما تمّ تقديم المواد الدراسيّة عبر الإنترنت. كما أنّ عدد من الجامعات اللّبنانية بدأت بتقديم هذه الخدمات بسبب وباء كورونا الذي يتطلّب احتواءه إقفال أبواب الجامعات والامتناع عن استقبال الطلّاب. كما أنّ التعليم عبر الإنترنت قد يصبح مصدر دخل جديد من خلال توفير الفرصة لاستقطاب طلاب من خارج لبنان.

٢-  تجميد زيادة الرسوم الدراسيّة

يشهد لبنان مؤخّرًا ازدياد حادّ في نسبة البطالة بسبب الأزمة الاقتصاديّة، وتراجع حادّ في دخل الأسرة، خاصّةً بين العائلات المتوسّطة الدخل التي تمثّل المصدر الأساسي للطلاب في الجامعات اللبنانية. لذلك، ستعيد هذه العائلات النظر في كيفيّة إنفاق أموالها وإمكانية انتساب أبنائها الى الجامعات الخاصّة. ينبغي على الجامعات السعي إلى الحفاظ على معدّلات الالتحاق وتفادي تسرّب الطلّاب الذي قد ينجم عن أيّ زيادة في الرسوم الدراسيّة. وقد اضطرّت العديد من الجامعات إلى زيادة رسوم التعليم للحفاظ على التوازن الاقتصادي، خاصّةً أنّ سعر الصرف الرسمي للدولار لا يزال مختلفًا عن ما يتمّ تداوله في السوق. ينبغي أن تتعاون المؤسّسات مع الحكومة من أجل تجميد هذه الزيادة في الرسوم الدراسيّة. على سبيل المثال خلال الأزمة الاقتصاديّة في كوريا في العام ٢٠١١، أصدرت الحكومة سياسة للحدّ من الزيادات في الرسوم الدراسيّة في كافة الجامعات المحلّية. قد يساهم تجميد الرسوم الدراسيّة، بالإضافة إلى التقشّف المالي، في وقف أيّ انخفاض محتمل في معدّل الالتحاق.

٣-  إدخال إصلاحات إداريّة

يمكن لمؤسّسات التعليم العالي الاستفادة من هذه الأزمة لإجراء تقييم ذاتيّ لعملياتها ولإدارتها. قد تكون المؤسّسات قادرة على إدخال سياسات إصلاح تُمكّنها من تحسين الإدارة والحوكمة

يمكن لمؤسّسات التعليم العالي الاستفادة من هذه الأزمة لإجراء تقييم ذاتيّ لعملياتها ولإدارتها.

لمؤسسيّة وجودة التعليم. ينبغي على الجامعات أن تدرك الحاجة إلى الإصلاح على مستوى أنظمة الإدارة والهياكل الإداريّة التي تسعى إلى تحقيق الكفاءة. تعتبر الجامعة اللّبنانية واحدة من المؤسّسات الحكوميّة التي قد تحقّق أكبر قدر ممكن من الاستفادة من مثل هذا الإجراء، لا سيّما إذا أخذنا بالاعتبار أنّ الحكومة تخصّص نسبة ٢٠ في المئة من ميزانيّة الدولة للتعليم لهذه الجامعة التي يتسجل فيها نسبة ٤٠ في المئة فقط من طلاب التعليم العالي.

٤-  توزيع الموارد والأموال بشكلٍ منصف وعادل

يُحدّد تأثير الأزمة على التعليم العالي عبر استجابة الأسر للطلب على التعليم. ينبغي أن تأخذ الجامعات بالاعتبار الخلفيّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة المختلفة للأسر اللّبنانية التي تتأثّر بشكلٍ مختلف من هذه الأزمة. وفي ضوء دور الدولة المتضائل، قد لا تساعد شبكات الأمان التي يمكن تأمينها للطلّاب الساعين إلى الحصول على التعليم العالي. ينبغي توزيع المنح الدراسيّة وهندسة برامج القروض الطلّابية وأيّ شكل من أشكال الدعم الاجتماعي بشكلٍ منصِف. تعتبر برامج المنح الدراسيّة القائمة على الاحتياجات والمنح الدراسيّة القائمة على الجدارة مهمّة للغاية من أجل دعم الطلب المستمرّ على التعليم العالي.

تحوّل التعليم في لبنان من كَونه عنصر أساسي في الحركة الاقتصادية، إلى كونه مجرّد امتياز للبعض. في الختام، وبغضّ النظر عن السيناريو الذي قد يتحقّق، من المهمّ الحفاظ على التعليم باعتباره منفعة عامّة. ومن المهمّ أيضًا أن يدرك لبنان أنّه بحاجة إلى مواكبة التوجّه العالمي في تأمين التعليم للجميع من خلال الطرق المتنوّعة. كما أنّ استجابة القطاع الخاصّ غير كافية للحدّ من تأثير الأزمة الماليّة على قطاع التعليم العالي في البلاد. فلا بدّ من وضع سياسات عامّة للاستجابة في سبيل الحفاظ على أولويّة التعليم وتأمين المزيد من الأموال لهذا القطاع. إنّ المستقبل، بحكم التعريف، لا يمكن التنبؤ به. لكنّ، من خلال الانسجام مع التقنيّات الحديثة، وتأمين التمويل، يمكننا التكيّف في مواجهة مختلف التحدّيات المستقبليّة. قد تتيح الأزمات التي يمرّ بها لبنان فرصة تحديد رؤية جديدة للتعليم العالي، تهدف إلى تطوير جودة التعليم والإنصاف والتنمية المستدامة. إذًا، ما هو السيناريو الذي سيشهده قطاع التعليم العالي في العام الدراسي ٢٠٢٠-٢٠٢١؟ إنّ القرار بيد لبنان.

هناء عضّام الغالي، مُديرة برنامج التعليم والسياسات الشبابيّة، معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة، الجامعة الأميركيّة في بيروت.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى