مقالات رأي

كيف يمكن لجامعات الخليج استيعاب الخبرات الأكاديمية العربية

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

ملاحظة المحرر: هذا هو القسم الثاني من مقال من جزأين. نُشر القسم الأول بعنوان “كيف يمكن لدول الخليج أن تساعد في وقف نزيف الأدمغة العربية.”

وصفتُ، في مقال سابق، رحلتي الخاصة من اليمن للحصول على فرص تعليمية ووظيفية أفضل في الغرب وهي قصة آلاف العرب الآخرين الذين يسافرون إلى الخارج للدراسة. على الرغم من أن الكثيرين يأملون في البداية في العودة إلى بلدانهم الأم، حيث توجد حاجة إلى مواهبهم، إلا أن الحقائق الصعبة غالبًا ما تعترض طريقهم.

اقترحتُ صيغة جديدة من شأنها أن تسمح لدول مجلس التعاون الخليجي بالمساهمة في إبطاء ومواجهة هجرة العقول من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتحويلها إلى “كسب للعقول”. تكمُن الفكرة في قيام دول مجلس التعاون الخليجي، التي تعتمد على العلماء والمهنيين العرب المدربين في دول أخرى لتزويد مرافق التعليم والبحث المتقدم بها، ببذل المزيد للمساعدة في الحفاظ على المواهب العربية في المنطقة. أعتقد أن هذا سيكون عرضًا مربحًا للجميع في المنطقة بأكملها. اسمحوا لي أن أشرح بمزيد من التفصيل آلية عمل هذا الاقتراح.

امنح المغتربين فرصًا متساوية للتقدم

بدايةً، هناك مشكلة في تحفيز المغتربين العرب الذين يشغلون مناصب أكاديمية وبحثية في دول مجلس التعاون الخليجي من دون أن يكون لديهم أي أمل في الحصول على الجنسية أو حتى الإقامة الدائمة. إنهم يعيشون في هذه البلدان لعقود من الزمن دون أن يتمكنوا من غرس جذورهم أو تسميتها وطنًا لهم. في معظم الحالات، لا يتنافسون على مستوى متكافئ، وفرصهم في التقدم محدودة بسقف زجاجي لا يتمكّن من تجاوزه سوى أقرانهم من مواطني الدولة المضيفة.

يشعر المغتربون وعائلاتهم بالإحباط على نحوٍ متزايد بسبب التذكير المستمر بكيفية تقييد نموهم وقدرتهم على إحداث تأثير في القوانين والحدود والممارسات المحلية. يمنعهم هذا من تحقيق إمكاناتهم الكاملة والرضا عن الوظيفة والمهنة التي كرسوا حياتهم من أجلها. ليست هناك مؤشرات على إمكانية تغيير هذه الحقائق قريبًا، كما يتضح من الارتفاع الأخير في القومية والشعبوية في المنطقة وإجراءات التقشف التي فرضتها العديد من دول مجلس التعاون الخليجي والتي تستهدف بشكل انتقائي الوافدين في هذه الدول.

مع أخذ ذلك في نظر الاعتبار، فإن من شأن توفير الجسور والقنوات التي تسمح للمغتربين العرب بإعادة الاتصال بجذورهم وشعبهم في وطنهم الأم أن يمنحهم إحساسًا متجددًا بالهدف، ودافعًا أكبر لمواصلة التفوق والابتكار في مجالهم، وليس بهدف الحفاظ على وظيفتهم فحسب. والأهم من ذلك، أنهم سيطورون إحساسًا أكبر بالتقدير للبلد المضيف ويصبحون أكثر استثمارًا في تنمية رأس المال البشري والمؤسسات  الوطنية. في حالة عدم وجود مسار ممكن للمواطنة، يمكن أن تكون هذه آلية رائعة لضمان الاحتفاظ بالمواهب والخبرات في البلد المستفيد.

شجع الوافدين على التعامل مع المؤسسات المحلية

ثانيًا، هناك فوائد إضافية للدولة والمؤسسات المضيفة. إذ توفر المشاركة النشطة للمغتربين العرب مع مؤسساتهم المحلية فرصًا فريدة لجذب الطلاب الموهوبين وإشراكهم في العمل في المشاريع ذات الاهتمام المشترك، لصالح جميع الأطراف. بالإضافة إلى تعبئة موارد بشرية إضافية، يمكن أن تساعد هذه الروابط في تعزيز التعاون والوصول إلى البيانات والموارد البشرية، مما قد يفتح الباب لإمكانيات جديدة للبحث والابتكار غير ممكنة في دول مجلس التعاون الخليجي، بسبب صغر حجم سكانها (باستثناء المملكة العربية السعودية).

إذا كان هناك شيء واحد تعلمناه من جائحة كوفيد-19، فهو فاعلية التعلم والتعاون عن بعد. وبالتالي، يمكن أن يحدث قدر كبير من هذه التفاعلات دون مغادرة البلاد.

قبل ستة أشهر، كان من الصعب الترويج لمثل هذا الاقتراح بسبب الخوف من أن يعني ذلك قضاء أعضاء هيئة التدريس والعلماء لبعض الوقت بعيدًا عن الحرم الجامعي وبالتالي بعيدًا عن طلابهم وواجباتهم الأخرى. إذا كان هناك شيء واحد تعلمناه من جائحة كوفيد-19، فهو فاعلية التعلم والتعاون عن بعد. وبالتالي، يمكن أن يحدث قدر كبير من هذه التفاعلات دون مغادرة البلاد.

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.

في السنوات القادمة، سيصبح التعلم والتعاون عن بعد جزءًا أكبر من مجال التعليم العالي والبحث السائد. سيتم تطوير المزيد من الدورات والمواد ومشاركتها عبر الإنترنت. يتم الآن إجراء المزيد من التعاون البحثي من خلال تطبيقات زووم وسكايب أكثر من أي وقت مضى، وسنرى قريبًا المزيد من التقنيات والأدوات المبتكرة التي تعزز جودة التعليم عبر الإنترنت والتجارب التعاونية. ومن المفترض أن تمكّن كل هذه التغييرات الجامعات في دول مجلس التعاون الخليجي من مشاركة المحتوى الذي تطوره معها جامعات أخرى في المنطقة دون تكاليف إضافية باهظة، مع الاستفادة في الوقت نفسه من المواهب في المنطقة لإنشاء المزيد من الدورات والمحتوى ذي الاهتمام المشترك دون الحاجة إلى تعيين أعضاء هيئة تدريس جدد.

اليوم، هناك حاجة ماسّة لمثل هذه المبادرات التعاونية، لا سيما بالنظر إلى التناقص المطّرد في ميزانية التعليم العالي والبحث في معظم دول مجلس التعاون الخليجي منذ انهيار أسعار النفط في عام 2014 ومؤخرًا نتيجة الآثار الاقتصادية لجائحة كوفيد-19. ومما زاد الطين بلة، الانهيار الوشيك للاقتصاد اللبناني، والحصار المفروض على قطر، وتزايد التوتر بين دول مجلس التعاون الخليجي، والحروب والصراعات في اليمن وليبيا والعراق وسوريا. سيكون للفشل في الاستفادة من المواهب والخبرات الضخمة غير المستغلة في المنطقة تكاليف باهظة وعواقب سلبية على الحكومات والاقتصادات المحلية والإقليمية.

الاستفادة من موارد الشتات العربي

لقد حان الوقت لتقبل فكرة هجرة العقول إلى الغرب ، على الأقل خلال السنوات العشر إلى العشرين القادمة.  لا ادعوا هنا ، بأي حال من الأحوال، إلى أننا يجب أن نتخلى عن قضية إشراك الشتات العربي والاستفادة من خبراتهم ومواردهم وشبكاتهم المهنية لصالح بلدانهم والمنطقة. لكن هذا لم يعد يتطلب عودتهم جسديًا إلى المنطقة. يتيح الإنترنت والتطور السريع لوسائل الإعلام والاتصال الجديدة اليوم إمكانية المشاركة والتعاون ومشاركة المعرفة والخبرة بشكل فعال دون الحاجة إلى السفر.

قبل بضعة أشهر، وجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي دعا إلى الحد من الهجرة من العالمين العربي والإسلامي، نفسه مضطرًا للاختيار بين اثنين من العلماء والمدراء التنفيذيين العرب الأميركيين الرائدين لقيادة الجهود الأميركية لتطوير لقاح لكوفيد-19.

قبل بضعة أشهر، وجد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي دعا إلى الحد من الهجرة من العالمين العربي والإسلامي، نفسه مضطرًا للاختيار بين اثنين من العلماء والمدراء التنفيذيين العرب الأميركيين الرائدين لقيادة الجهود الأميركية لتطوير لقاح لكوفيد-19. إذ عيّن منصف السلاوي، المواطن البلجيكي-الأميركي المولود في المغرب، ليكون قيصر لقاحه. ومثل السلاوي، يشغل آلاف العلماء والمهندسين والأطباء وقادة الأعمال والمهنيين من الشتات العربي مناصب مؤثرة في الغرب. ويُشاد بهم لقيادتهم في مجالاتهم ومساهماتهم في النهوض ببلدانهم الجديدة. يجب ألاّ تمنعنا حقيقة أننا غير مستعدين أو غير قادرين على إعادتهم من إشراكهم والاستفادة من ثروتهم المعرفية وخبراتهم وتجاربهم.

كما حان الوقت أيضًا للتعرف على الفوائد الهائلة والفرص الضائعة في المجتمعات العربية وغيرها من المغتربين الموجودين في المنطقة، ولا سيما في دول مجلس التعاون الخليجي الغنية. ومن شأن مساعدتهم في الحفاظ على الاتصال مع بلدانهم ومؤسساتهم أن يوفر فرصة فريدة للوصول إلى المواهب والأسواق الجديدة، والتي يمكن أن تعود بفوائد اقتصادية على دول مجلس التعاون الخليجي. إذا أتيحت لهم الفرصة للنجاح والمساهمة في تنمية وطنهم، فمن المرجح بقاؤهم في المنطقة.

يجب علينا أيضًا قبول حقيقة عدم وجود بلد واحد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يمتلك رأس مال بشري وموارد طبيعية ووسائل مالية لبناء بيئات مستدامة وتنافسية للبحث والابتكار والتنمية. تكمُن الفرصة الوحيدة بالنسبة لنا لرؤية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نابضة بالحياة في التعاون والتنسيق والعمل معًا لضمان استمرارنا في دعم تطوير المواهب والقوى العاملة الماهرة في جميع أنحاء المنطقة.

هلال الأشول، أستاذ علم الأعصاب في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في سويسرا.

Countries

‫3 تعليقات

  1. مقال رائع وفكرة عملية.. وهو ما أدعو إليه كثيرا من العرب المهاجرين من نقل خبراتهم بالعربية سواء كان ذلك مقالات أو دورات أو فيديوهات أو لقاءات أو ترجمات أو غيرها.. لكن ستظل الكثير من المجالات تحتاج العمل على الأرض والوجود الفعلي ولكن شيء خير من لا شيء.

    المشكلة فيمن يهاجر ليس في المال وحده وإن كان مهما، لكن المهاجر يبحث عن وطن جديد، يبحث عن الاحترام والتقدير، يبحث عن الحرية والعدالة التي تقدمها تلك الدول الغربية له ولعائلته والجنسية التي تضمن له كافة حقوق المواطنين الأصليين.. هل توفر دول الخليج (كلها بلا استثناء) هذه الأمور. الإجابة ببساطة: لا.
    يعيش أحدهم عقودًا ويظل مهاجرًا يمكن أن يطرد في أي لحظة، فهو يعلم في قرارة نفسه أن معيشته في دول الخليج مؤقته، فليجمع ما أمكنه من أموال ويرجع بها إلى بلده متى ما استطاع ذلك، ناهيك عن سوء التعامل الذي وجدته من عشرات من التقيتهم ممن هاجروا للخليج.. وإذا أتى من انتقد ذلك الوضع أو سياسة دولة خليجية كان يعمل فيها، أتته جحافل المن والأذى والانتقاص منه ومن دولته وشعبه …إلخ. إلى جانب نظام الكفالة السيء جدا والذي يجعل المهاجر تحت رحمة الكفيل وقد يكون قذرا ونصابا ويفعل الأفاعيل.
    والحرية التي توفرها الدول الغربية تجعل المهاجر (والذي قد يكون مطرودا لسبب سياسي) يعبر عن رأيه بحرية بدون قيود.. ولكن في دول الخليج الحرية مقيدة إلى أبعد الحدود.. وزاد الطين بلة تصهين بعض الدول الخليجية والتفاخر بذلك.. على الأقل، الذهاب إلى الولايات المتحدة أو بريطانيا (راعيتا الصهوينية من مهدها) أرحم من أن تذهب إلى دولة خليجية تتنكس لمبادئها بل وتعاقب من ينتقد ذلك.. على الأقل في أمريكا أو بريطانيا (أو غيرهما غربيا) ستعبر عن رأيك بحرية في القضية الفلسطينية دون تهديد..

    مشكلات وعوائق كثيرة، يمكن أن تحل معظمها سياسيًا.. لكن المحاولة خير من لا شيء.. ومن يحاول لمساعدة أمته مأجور على كل حال..

  2. مقال في وقته، وفي صلب ماتمر به المنطقة من تحديات على جميع الاصعدة على وجه الخصوص، ومايمر به العالم من صعوبات فرضتها جائحة كورونا على وجه العموم. مما لا شك فيه ان الكثير من الكفاءات العربية المهاجرة فرضت ثقلها في بلدانها الجديدة، وساهمت في استمرار النهوض بهذه البلدان حيث يشغل البعض فيها مراكز مؤثرة.

    على الارض، يحتاج الامر الى تكاثف الخبرات الاكاديمية العربية المهاجرة من جهة، والى توفر الدعم من المؤسسات التي تنتمي اليها هذه الخبرات وسعيها الى بناء جسور مع المؤسسات التعليمية في البلدان الام من جهة اخرى، حيث يشكل الاخير، في اعتقادي، العقبة الاكبر في الاستفادة من العقول العربية المهاجرة في دول الخليج او الغرب على حد سواء!

  3. هذا مستحيل في المنظور القريب للأسف الشديد لأن على مدار عدة عقود منذ إكتشاف البترول قام حكام الخليج (ربما بتوجيه بريطاني) باصطناع العقد الاجتماعي الريعي وما يتبعه من ثقافة ريعية رسخت في وجدان المجتمع وأصبحت من ثوابت التنشئة الاجتماعية. قبل البترول كان يوجد شبه ديمقراطية قبلية ودور اجتماعي قوي في إعطاء الشرعية لحاكم ما وتمويله والقتال في صفه أو ضده أو الانقلاب عليه وكان في بعض الأحيان التجار الكبار أغنى من الحاكم. لكن بعد البترول، نظير أن ينفرد الحاكم وحده بملكية الثروة الجديدة وأن يستبد بالحكم كيف شاء بدون مشاركة أو محاسبة، قام بشراء زعماء القبائل وإغناء المجتمع وترفيهه وإلهائه فاقتنع الجميع (أو الأغلبية) بهذه الصفقة وتكونت حولها تدريجياً هوية وطنية موازية للهوية القبلية. ولأن المكتسبات المادية والعطايا والمنح ستقل كلما شارك فيها “غرباء” أو “وافدين”، تم الاستفادة منهم بمقابل مادي مؤقت مع الحرص أن لا يتحول لحق مكتسب وإشعارهم أن مهما طالت مدة خدمتهم فلن يصبحوا أبداً جزء من المجتمع. نرجع للحاكم؛ فقد حقق من هذا التحول الثقافي، مصالح سياسية واقتصادية مهمة جداً منها:
    ١- تدجين وتطويعه المجتمع الذي كان يوما ما مسلحاً ومحارباً وقوياً ومؤثراً ومنتجاً ونشيطاً.
    ٢- زرع الثقافة الاستهلاكية بموازاة الترفيه والعطايا والمكرمات والمنح، فتعود الأرباح لأصحاب الوكالات والشركات الذين هم طبعا عائلة الحاكم والمقربين منه. امتدت الثقافة الاستهلاكية للوافدين أيضاً فتم استرجاع جزء كبير مما حققوه من فوائد مادية.

    الآن وقد أمسى المجتمع منزوع القوة يتم تدريجياً تغيير شروط هذه الصفقة بحيث يحتفظ الحكام بمميزاتها وسحب البساط تدريجياً من تحت أقدام الناس والتطبيق التدريجي لطراز خليجي من النيوليبراليزم يُقر الاستبداد السياسي ويُقر لرأسمالية ويُحمل المواطن (حباً أو كرهاً) تكاليف وأعباء كان لا يلقي لها بالاً فيتم إفقار الناس نسبياً بحيث يقبلون القيام بأعمال كانوا يستنكفون القيام به وينشغلون بالمحافظة على وضعهم المادي عن التفكير كيفية المطالبة بالحقوق المسلوبة. ربما لا نرى ذلك بعد بوضوح شديد في البلدان الخليجية الغنية صغيرة الحجم ولكن نراه أوضح في البلدان الأكبر ثم تمر السحابة على الجميع.
    العجيب أن رغم أي اختلافات فالسيناريوهات واحدة تقريباً في كل الخليج مع اختلاف سرعة التطبيق وكأن المايسترو واحد.
    رغم قناعتي أن هذا لا يُمكن تطبيقه في مناخ غير ديمقراطي فالمقال رائع جداً ويحبذ الترويج له داخل المجتمع الخليجي ونخبته الثقافية والسياسية لكي يروا المميزات التي يحرمون أنفسهم منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى