مقالات رأي

نزعة التجنب والرقابة الذاتية :قراءة في كتاب إنتاج الفراغ-التقاليد البحثية العربية

تنويه من المحرر: يأتي المقال أدناه ضمن سلسلة مقالات حول هيمنة وتبعات الرقابة الذاتية الأكاديمية في أوساط التعليم العالي في عدد من الدول العربية، وذلك بالتزامن مع نشر نتائج استطلاع للرأي أجرته الفنار للإعلام بالتعاون شبكة العلماء في خطر حول الرقابة الذاتية لدى الأكاديميين والباحثين العرب. للإطلاع على التقرير الخاص بالإستطلاع اضغط هنا.

هل ينطلق الباحث الاجتماعي، في دول العالم العربي، لدى تناوله  للظّواهر الاجتماعية، من حريّة علميّة وفكريّة غير مُقيّدة؟ أم أنّه يخضع لرقابة ذاتيّة ؟

يسمح الفضاء الاجتماعي (والتّعبير لعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو) في الدول الديموقراطية بالتنافس والصّراع بين مالكي رؤوس الأموال المختلفة من أجل الهيمنة والسّيطرة، ويسمح أيضا بفهم الكثير من قضايا إنتاج المعرفة ونشرها، فهل هو كذلك في الدّول التي تكون فيها السّيطرة فقط لمالكي الرأسمال السّياسي؟

يبحث عدنان الأمين عن إجابة لهذا السؤال وتساؤلات أخرى تدور حول واقع الحريات الأكاديمية العربية في كتابه الصادر عن الدار العربية للعلوم / ناشرون في بيروت، تحت عنوان:” إنتاج الفراغ-التقاليد البحثية العربية“، معتبرا أن سيطرة السّياسة الواضحة لأيّ مراقب لمجريات العمل في الجامعات العربيّة، ولا سيّما الحكوميّة منها، هي المفسّر الرّئيسي لواقع تراجع إنتاج المعرفة الاجتماعية وتداولها في هذه البلدان.

ويرى الكتاب الصادر في 318 صفحة من القطع المتوسط، أن اختيار أساتذة العلوم الاجتماعية في الدّول العربيّة، يكون على خلفيّة الدرجات التي يحصلون عليها في مرحلة البكالوريا، والتي تكون الأدنى مقارنة بالمعدّلات العالية التي يحصل عليها المُختارون لاختصاصات الكليات العلمية، مما يجعل من هؤلاء الأساتذة مستعدّين لمراعاة الشروط التي يعملون في ظلها، داخل مؤسّسات محكومة بالضّبط السياسي، بما في ذلك التعّليم والبحث ضمن الأطر القائمة. وكلّ ذلك من أجل المحافظة على المكاسب الوظيفية التي حصلوا عليها. (اقرأ التقرير ذو الصلة: العلوم الإجتماعية في العالم العربي شحيحة رغم الحاجة إليها).

ويشرح الكتاب كيف أن أبحاث هؤلاء الأساتذة لا تقدم من أجل طرح منتج معرفي، بل من أجل التّرقّي وتكوين صورة اجتماعيّة براقة عن أنفسهم بوصفهم باحثين، ومع خضوع الأساتذة لهذه السّياقات السّياسيّة والثّقافيّة والاجتماعية، فإنهم يتجنبون عادة البحث بجدية في قضايا مجتمعاتهم المحلّيّة، ويكتفون بامتلاك تقاليد بحثيّة ذات طبيعة تلتزم بالشّكل المنهجي على حساب المضمون العلمي وتنتج فراغا معرفيّا.

تجنب القضايا الحساسة

ونادرا ما يستخدم عدنان الأمين في كتابه تعبير”الرقابة الذاتية”، مفضلا تعبير “التجنب” في إشارة إلى الكيفية التي يتجنب الباحثون عبرها معالجة القضايا الحساسة في المجتمع، مما يخلق نزعة تناسب الأنظمة التي تقوم على طابع أيديولوجي، وفي نفس الوقت تلائم الباحثين الذين يفضلون  تجنب الضغوط الأيديولوجية ،سواء كان مصدرها السلطة أو المجتمع. (اقرأ التقرير ذو الصلة: أبواب موصدة أمام الباحثين في الشرق الأوسط).

self-censorship – Adnan El Amine book
يلاحظ كتاب” إنتاج الفراغ-التقاليد البحثية العربية” للكاتب عدنان الأمين، أن أساتذة العلوم الاجتماعية العرب يميلون إلى تجنب البحث في القضايا الجادة لمجتمعاتهم المحلية.

ويشرح الكتاب كيف أن أبحاث هؤلاء الأساتذة لا تقدم من أجل طرح منتج معرفي، بل من أجل التّرقّي وتكوين صورة اجتماعيّة براقة عن أنفسهم بوصفهم باحثين، ومع خضوع الأساتذة لهذه السّياقات السّياسيّة والثّقافيّة والاجتماعية، فإنهم يتجنبون عادة البحث بجدية في قضايا مجتمعاتهم المحلّيّة، ويكتفون بامتلاك تقاليد بحثيّة ذات طبيعة تلتزم بالشّكل المنهجي على حساب المضمون العلمي وتنتج فراغا معرفيّا.

ونادرا ما يستخدم عدنان الأمين في كتابه تعبير”الرقابة الذاتية”، مفضلا تعبير “التجنب” في إشارة إلى الكيفية التي يتجنب الباحثون عبرها معالجة القضايا الحساسة في المجتمع، مما يخلق نزعة تناسب الأنظمة التي تقوم على طابع أيديولوجي، وفي نفس الوقت تلائم الباحثين الذين يفضلون  تجنب الضغوط الأيديولوجية ،سواء كان مصدرها السلطة أو المجتمع.

 ومع شيوع هذه النزعة يصبح الباحثون قادرون “على السير وحدهم”، من دون تحذير ولا مساعدة ولا رقابة خارجية، ومن دون الحاجة إلى منع ظاهر للحريات الأكاديمية. لأنهم  يمنعون أنفسهم  في الواقع عن ممارستها فعليا .

يكشف الأمين عن وسيلتين تكرس نزعة التجنب، الأولى: ابتعاد الأساتذة عن البحث النوعي الذي يعتمد تحليل النصوص وإجراء المقابلات والمشاهدات، والثانية: إقبالهم على الدراسات الكمية، واستعمال الاستمارات والاختبارات والمقاييس، والتخلي عن الدراسات التي يمكن أن تؤدي إلى وضع أطر نظرية.

ضمن هذا السّياق تولد (الجامعة النمطيّة) وتصبح هي الأكثر انتشارا ويُعيّن رؤسائها من الموالين للسلطة، الذين يحبذون تهميش العلوم الاجتماعية، وتُمنع دراسة الموضوعات التي تُصنّفها الثّقافة السّائدة ضمن “التابوهات” المحرمة ومنها الجنس والدّين والنّزاع السّياسي والأقلّيّات ودراسات المرأة”.(اقرأ التقرير ذو الصلة: دراسة الميول الجنسية في العالم العربي: عقبات وتحديات).

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

وفي مثل هذه الأجواء تسود طرق البحث الأكثر سهولة في التّنفيذ والإنجاز، ويغيب أسلوب التقصّي ويحلّ التّلقين، ويُصبح من العسير “إنتاج مفكّرين مستقلّين” فيها، فتتحوّل مراكز أبحاث العلوم الاجتماعية إلى مراكز هامشيّة الحضور والفعاليّة.

https://www.bue.edu.eg/

مشكلات النشر

يرصد الكتاب واقع الجماعة العلمية والمؤتمرات ذات الطابع الاحتفالي والتي تقام تحت رعاية السّيد الرّئيس أو جلالة الملك وسمو الأمير أو معالي الوزير وأثرها في المجال العام، ويتناول  كذلك مشكلات النّشر الجامعي بمختلف أشكاله، سواء نشر الكتب أوالتّقارير والمقالات في المجلّات العلمية، التي تخضع في سياستها لقيود علاقات السّلطة القائمة بداخلها، فيكون من أهداف إنشائها، النشر من أجل التّرقية، والتّساهل في تطبيق المعايير وتراجع طرق المحاسبة، ممّا يُتسببّ في تراجع أدوارها محليّا وإقليميا وعالميّا، فضلا عن انغلاقها الفكري على الأساتذة من داخل التخصص. (اقرأ التقرير ذو الصلة: لماذا تبدو العلوم الاجتماعية منفصلة عن الواقع)

تسود طرق البحث الأكثر سهولة في التّنفيذ والإنجاز، ويغيب أسلوب التقصّي ويحلّ التّلقين، ويُصبح من العسير “إنتاج مفكّرين مستقلّين” فيها، فتتحوّل مراكز أبحاث العلوم الاجتماعية إلى مراكز هامشيّة الحضور والفعاليّة.

ووفقا للكتاب فإن خضوع الباحثين الاجتماعيين لهذه السّياقات، أدّى إلى نشوء نمطين كبيرين للدّراسات التربويّة والاجتماعية، وهما بحسب الأمين “نمط الأمبيريقيّة الفارغة، ونمط المعياريّة الاجتماعية، وبينهما نمط التّلفيق”، وكلها أنماط تفضي مجتمعة الى إنتاج الفراغ المعرفي. وتتميّز الأمبريقيّة الفارغة، بأنّ البحث فيها ينطلق من يقين معرفي، بعكس التّقاليد البحثيّة المعرفيّة، التي تنطلق من مشكلة أو قضيّة تحتاج إلى تفسير. وتتجنب الأمبيريقية الفارغة استثارة ما يخدش الأيديولوجيا السائدة، لتكون الحريات الأكاديمية هي الضحية.

وبحسب الكتاب تقوم التقاليد الاجتماعية في البحث في البلدان العربية على أربعة أركان. الأول أولوية العائد الاجتماعي للبحث، أي المصلحة، والثاني: الحرص على المقبولية الاجتماعية، لدى أهل السلطة ومتّخذي القرارات، ومراعاة التقاليد والأعراف والتابوهات الاجتماعية، والتجنُّب، أي تجنب البحث في القضايا المثيرة اجتماعياً، وهذه هي الامتثالية، والثالث: توهُّم مخاطبة الجمهور الواسع والسلطة السياسية، وهذا هو الوسواس. وأخيرا الرابع وهو اتخاذ أيديولوجيا معيَّنة أو قيما معينة مرجعية في فحص الواقعة المدروسة بدلاً من النظريات الاجتماعية، وهذا هو الانخراط الاجتماعي (التحزُّب والمعيارية الاجتماعية).

وهذه التّقاليد تشترك فيها معظم البلدان العربيّة، ليصبح معها الأساتذة الجامعيّون حماة لها ينقلونها إلى الجيل الجديد من الباحثين، في حين كان من المتوقّع أن يُساهموا بصفتهم من النّخبة المفكّرة في المجتمع، في نقد الإيديولوجيّات والأفكار التي تُعطي الشّرعيّة للسلطات المستبدّة.

 فداء بوحيدر يحمل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي (2016)، وهو حاليا أستاذ مساعد ورئيس قسم علم الاجتماع الاقتصادي في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى