مقالات رأي

كيف نعزز من وجود الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

تنويه من المحرر: يأتي المقال أدناه ضمن سلسلة مقالات حول الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بناءاً على استطلاع للرأي أجرته الفنار للإعلام بالتعاون شبكة العلماء في خطر حول الرقابة الذاتية لدى الأكاديميين والباحثين العرب. للإطلاع على التقرير الخاص بالإستطلاع اضغط هنا.

على الرغم من أهميتها البالغة في دفع حركة البحث العلمي وتطويرها، تبدو الحرية الأكاديمية  مسألة حديثة العهد في الثقافة العربية، ومن النادر طرحها  خارج الدوائر المهتمة بفلسفة التعليم، في حين أنها قضية مجتمعية تتجاوز تأثيراتها أسوار الجامعة وتمتد إلى المجال العام.

وتتضاعف أهميّة هذه المسألة مع واقع جديد للجامعة الحكومية، التي أنتجت خلال السنوات الأخيرة جيلا جديدا من الأكاديميين لم يعد معنيا بالبحث، بعد أن أصبحت الجامعة ذاتها في أفضل الأحوال مصدرا لكسب الرزق، أو الحصول على معاش يساعد في تلبية الحاجات اليومية. وانحصرت طموحات غالبية الأساتذة  في إجراء البحوث التقليدية ونشرها، والمشاركة في  المؤتمرات لغرض الترقيّ المهني وحده .

ولم يعد غريبا والحال هكذا، أن يبقى الأكاديمي العربيّ بعيدا عن الهواجس والأفكار التي تشغل الدوائر الجامعية في العالم  وعلى رأسها مسألة الحرية الأكاديمية  التي يعود تاريخ الاهتمام بها في الغرب للعام 1940  حين صدر أول بيان  حول هذا الغرض ، وقبلها بعقود جاءت الريادة في إرساء تقاليد البحث الأكاديمي مع تأسيس جامعة ليدن في العام 1575 .

ويفسر هذا المعطى التاريخي بصورة جزئية  تخلّف التعامل  مع ملف الحريات الأكاديمية  ، التي لم تصبح موضع اهتمام في عالمنا العربي إلا في ظل  تفجر أزمات تتعلق بحرية البحث العلمي أو إستقلال الجامعات.

ونتيجة تعمق هذه الفجوة تاريخيا ومعرفيا  انحصرت الممارسات الأكاديميّة العربيّة  في فهم محدود لعملية التدريس الجامعيّ ، وبات ينظر لها كمهنة تماثل سائر المهن وتخضع  بالتالي لقاعدة العمل المنجز.

الخوف من السؤال

مرّ على الجامعيين حين من الدّهر لم يطرحوا على أنفسهم  أبدا السؤال الجوهري الذي طرحه زملاؤهم قبل عقود وهو : هل تمثل علاقة الأستاذ الجامعيّ بالدرس والطلاب ترجمة أمينة للسياسات الحكومية التي تختار مناهج التعليم العالي وتحدد مقاصده وآلياته بحكم أنّ ميزانية الجامعات تأتى منها، وهو ما يمكّنها  بالتالي من إحكام قبضتها على السياسات الأكاديمية وإزاحة كلّ الموضوعات التي ترى فيها خطرا يهددّ وجودها؟

ويكفي أن نتأمل كيفية تعامل الحكومات العربية قبل احتجاجات الربيع العربي مع كلّ ما كان يطرح في  قاعات الدرس حول مسائل ” الديمقراطية وحقوق الإنسان أو حرية الفكر ومكانة الدين” وغيرها من المسائل  التي بقيت لعقود تندرج في إطار المحظورات داخل جامعاتنا العربية .

ويكفي أن نتأمل كيفية تعامل الحكومات العربية قبل احتجاجات الربيع العربي مع كلّ ما كان يطرح في قاعات الدرس حول مسائل “الديمقراطية وحقوق الإنسان أو حرية الفكر ومكانة الدين” وغيرها من المسائل التي بقيت لعقود تندرج في إطار المحظورات داخل جامعاتنا العربية.

يستتبع الحديث عن هذه الحريات التطرق بالضرورة لحدود التحكم فيها من قبل السلطة، ومن ثم  الخوض في آليات إقرار المناهج والوحدات التعليمية ذاتها، ففي نظام التعليم التونسي على سبيل المثال تخضع هذه الوحدات لخيارات الحكومة ممثلة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لذلك فهي مشروطة بخيارات السياسة الحكومية وهو ما يجعلها حرية لا تتجاوز السقف المعلوم سلفا، في إطار ما حدّدته مدوّنة تشريعيّة انطلقت من دستور2014  الذي أعلى من الحريّة كمبدأ، لكنه ترك مهمة تشكيل لجان إقرار المسارات التعليمية والوحدات التعليمية للهيئات الحكومية المسؤولة، وبقى الأمر في ظاهره حرية أكاديمية وفي باطنه تحكمّ مؤسسّاتيّ في طبيعة الإنتاج الأكاديمي.

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

لا نحتاج لتفاصيل حول طبيعة المناخ العربي العام ، حيث تتزايد أشكال الرقابة المجتمعية  على نحو ينسف كلّ حريّة أكاديمية، وطوال  أكثر نصف قرن  تابعنا في العالم العربي سلسلة من الاغتيالات المادية والمعنوية طالت بعض المفكرين والمبدعين والأكاديميين بزعم ” الاعتداء على المقدّسات” .

 وما تزال مجتمعاتنا تشهد ملاحقات قضائية  بحق أساتذة ومفكرين تستجيب لاتهامات معلبة تنتمي إلى أفكار محاكم التفتيش ،هذا بخلاف حملات التكفير التي تطول كلّ من يفكّر خارج السرب محتميا ب”الحريات الأكاديمية “.

الفوضى  الشاملة

وعلى الرغم من كل هذه المؤشرات السلبية إلا أن بيننا من يرى أن واقع  الجامعات اليوم  قد تغيّر إلى حد أننا  قد تحوّلنا إلى منطقة” Over dose” أو ” الجرعة الزائدة”  التي نتعاطاها باسم الحريات الأكاديمية ونتيجة سوء الاستعمال نضطر في بعض المواقف لنسف كل الضوابط، وتبرير التجاوزات المهنيّة أو أشكال القصور في القدرات العلمية  ليتحول شعار ” الحريات الأكاديمية” من سلاح داعم لحرية البحث إلى فوضى تدمّره .

والشاهد أن أي متأمل في علاقة الحريات الأكاديميّة بالسياسات الثقافية العربيّة  يعرف أن هذه السياسات  تنهض على مبدأ التلقين في الدرس والتحصيل العلمي، ويدرك أنها نتاج العقلية العربية التي تنهل من منهج نقلي في  تحصيل المعرفة، يقوم على مبدأ ” العنعنة”، فكل طالب يجلس أمام شيخ  سبقه لتقلي الحكمة، دون فحص نقدي.

والشاهد أن أي متأمل في علاقة الحريات الأكاديميّة بالسياسات الثقافية العربيّة يعرف أن هذه السياسات تنهض على مبدأ التلقين في الدرس والتحصيل العلمي، ويدرك أنها نتاج العقلية العربية التي تنهل من منهج نقلي في تحصيل المعرفة، يقوم على مبدأ “العنعنة”، فكل طالب يجلس أمام شيخ سبقه لتقلي الحكمة، دون فحص نقدي.

وقد ترسخت عبر قرون ثقافة عمومية قامت على معاداة كل تفكير حرّ وشيدت على تكفير المخالف للسلطان ونهضت على حرق كتب هؤلاء المخالفين، لذلك فإنّ الخروج من قيودها  النقلية المعادية لكل حريّة في التفكير يستوجب العمل على إرساء ثقافة تنويرية مضادة تسمح بتحرّر العقل بعيدا عن (التابوهات ) أو المسلمات  وتعتني بإقرار حق الاختلاف وحرية الرأي حتى يتمكن العقل الأكاديمي العربيّ من إرساء منظومة جديدة تسمح بالتبادل الحرّ للأفكار والمواقف مهما بلغت درجة تعارضها مع الرأي الجمعيّ ليكون المجتمع الأكاديميّ سيّد نفسه لا خادما مطيعا لمن يدفع له.

وحتى يكون هذا المقال مدخلا يَسهم مع غيره في إرساء توافق دوليّ حول الحريات الأكاديمية أسجل مجموعة من التوصيات هي نتاج خبرة بحثية طويلة ، شملت تسيير إحدى المؤسسات  الحكومية وإدارتها.

تبدأ أولى التوصيات التي اقترحها  بوقف الملاحقة القانونية  بحق أي أستاذّ جامعي يقوم بدرسه في إطار مسؤولياته والتزامه بالضمير المهني مكفولا بالمواثيق الدولية ومنها حقوق الانسان. وأطالب بإبعاد الجامعات عن الصراعات العقائدية والعنصرية والاثنية وجعل جودة التدريس هدفا أسمى ، إلى جانب عدم تكبيل المناهج بتبريرات لا تخدم إلاّ أصحابها وتنسف أي جهد أكاديميّ خلاق ، وأدعو كذلك إلى إطلاق حملة تضامن دولية ضدّ كلّ أشكال العنف المادي واللفظي و التشريعات المكبلة للحريات الأكاديمية للطلبة والأساتذة ، مع الحرص على إرساء نظام أكاديمي دولي عادل لا يقوم على توفير الفرص للجامعيين من الدول الأغنى على حساب تهميش أكاديمي الدّول الفقيرة . وتبقى للجامعي إمكانية الاستفادة من التعديل الذاتي في مسألة الحريات الأكاديمية حتى يكون  بمنزلة وسطى بلا إفراط و لا تفريط.

 د. محمد سعد برغل، صحافي وكاتب. يشغل منصب عميد وأستاذ المعهد العالي للغات التطبيقية بالمكنين بجامعة المنستير في تونس، ويحمل شهاداة الدكتوراه في الدراسات العربية .

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى