مقالات رأي

الرقابة الذاتية في الجامعات: انتهاك للحرية الأكاديمية

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

تنويه من المحرر: يأتي المقال أدناه ضمن سلسلة مقالات حول هيمنة وتبعات الرقابة الذاتية الأكاديمية في أوساط التعليم العالي في عدد من الدول العربية، وذلك بالتزامن مع نشر نتائج استطلاع للرأي أجرته الفنار للإعلام بالتعاون شبكة العلماء في خطر حول الرقابة الذاتية لدى الأكاديميين والباحثين العرب. للإطلاع على التقرير الخاص بالإستطلاع اضغط هنا.

“يجب أن تكون الجامعة الحديثة بلا شرط. نقصد بـ “الجامعة الحديثة” تلك التي ساد فيها النموذج الأوروبي، بعد تاريخ ثري ومعقد من العصور الوسطى، أي النموذج “الكلاسيكي”، منذ قرنين من الزمان، في الدول ذات الطابع الديمقراطي. تتطلب هذه الحقيقة وتوجب الاعتراف من حيث المبدأ، بالإضافة إلى ما يسمى بالحرية الأكاديمية، بحرية غير مشروطة في طرح الأسئلة والاقتراحات، وحتى الحق في قول كل ما هو مطلوب للبحث والمعرفة والتفكير الصادق علانية … أي أن تقوم الجامعة بوظيفة تصدير الحقيقة.

جاك دريدا، في كتابه “الجامعة بلا شرط”، منشورات غاليليه، باريس، 2001. 

حلم ضائع

يبدو أن حلم دريدا – المُفكك العظيم للمفاهيم – في رؤية ولادة جامعة “بدون شروط”، لتكون مساحة للمقاومة النقدية الهادفة لبناء إنسانية جديدة، صعب التحقيق اليوم. تماماً كحال بناء إنسانية جديدة الاهتمام الأساسي للمعرفة التي نحلم بها.

إذ كان من المفترض أن تُمنح الجامعة، على غرار عصر التنوير، حقًا غير مشروط في التشكيك في كل شيء، ولاسيما مفهوم الإنسان في مجمله. لا يوجد دليل سوى المعرفة، لا شيء سوى المعرفة؛ ومن هنا تنطلق هذه المقاومة لجميع السلطات مهما كانت (الكنيسة، الدولة، المؤسسات …). لا شيء يفلت من الاستجواب ويجب أن يُقال كل شيء علنًا.

أطروحة دريدا بسيطة وتتمثل في أنه في فضاء “العلوم الإنسانية الجديدة” يُمكننا تطوير مفهوم آخر للإنسان. لكن هذه الأطروحة تقترح أيضًا برنامجًا كاملاً تتطلبه مهنة الإيمان هذه بالجامعة والعلوم الإنسانية المستقبلية. ما هي المؤسسات التي يجب بناؤها لإرساء هذا اللامشروط؟

أطروحة دريدا بسيطة وتتمثل في أنه في فضاء “العلوم الإنسانية الجديدة” يُمكننا تطوير مفهوم آخر للإنسان.

كيف يمكننا فهم هذه التحولات العميقة الجارية (العولمة، التقنيات الافتراضية، “الديمقراطية الإلكترونية”، وضع السيادة، إعادة التأكيد على حقوق الإنسان والتقدم في الأداء)؟ يؤكد دريدا أن الأمر متروك للجامعة لتنمية مساحة المقاومة والاختراع هذه. من داخل الجامعة يجب استجواب كل شيء، ووضعه على بُعد، وتفكيكه. يقترح هذا المسعى تنمية وحماية الحريات الديمقراطية: حرية الضمير، والتعليم، والبحث، والإبداع، وحرية الأستاذ في ممارسة وظائفه الأكاديمية بعيدًا عن العقائد أو المذاهب المحددة. في الواقع، لن تكون هناك محرمات ، ومن هنا تأتي حرية انتقاد المجتمع والمؤسسات والمذاهب والعقائد والقوانين والسياسات العامة وسياسات الجامعة ….

الديمقراطية ونسبية القيم

أصبح نموذج اللاشرطية هذا مهددًا الآن بزحف نسبية القيم التي تتضمنها الادعاءات المُصاغة باسم المساواة والاندماج واحترام مُختلف علامات التنوع داخل المؤسسات الأكاديمية. يدعي أنصار هذا الاتجاه أنهم قلقون من أن من المحتمل أن تقوّض بعض المواد والأنشطة في الجامعة هوية مجتمعات معينة. (اقرأ التقرير ذو الصلة: الرقابة الذاتية مشكلة شائعة لكن مسكوت عنها في الأوساط الأكاديمية العربية).

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

في استقصاء لهذه الظاهرة، أشارت صحيفة لو فيغارو الفرنسية في مقال نشرته في 29 تموز/ يوليو 2020، إلى عدد من حالات الرقابة والتهديد والعنف التي شكلت عقبات أمام حرية التعبير في الجامعات الفرنسية. فيما يلي قائمة غير شاملة عن صعوبات حرية التعبير هذه: الغاء مؤتمر عن نابليون؛ وتأجيل عرض مسرحية يونانية قديمة؛ وتأجيل دورة حول منع “التطرف”.

كما ألغيت العديد من الفعاليات والمظاهرات في الجامعات والكليات الفرنسية على إثر توجيه بعض الطلاب أو النشطاء تهديدات لمسؤولي المدارس. وعُطلت العديد من المؤتمرات، مثل مؤتمر الفيلسوفة سيلفيان أغاسينسكي، في جامعة بوردو- مونتين، بعد توبيخها لمعارضتها الإنجاب بمساعدة طبية. تفاجأت كارول تالون-هوغون، فيلسوفة علم الجمال، والتي تلقت دعوة للتحدث في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في فيلا أرسون حول كتابها الأخير عن الرقابة في الفن، برؤية ملصقات منشورة في كل مكان تدعو إلى مقاطعتها، والقائمة تطول.

كما ألغيتالعديد من الفعاليات والمظاهرات في الجامعات والكليات الفرنسية على إثر توجيه بعض الطلاب أو النشطاء تهديدات لمسؤولي المدارس.

ما يزعج الكثيرين أن العديد من المدرسين يفضلون الصمت والرقابة الذاتية على الدفاع عن القيم التي تمثل أساس الجامعة.

مناجاة بلا معنى 

وغني عن البيان ارتباط هذا الارتفاع في النشاط المتعصب، الذي يدعي لنفسه حرية التعبير فيما ينكرها على الآخرين، بحركات السكان الأصليين وحركات مناهضة الاستعمار ومناهضة التمييز بين الأنواع. من الواجب أن ننتبه بحذر لهذه الظاهرة، خاصة عندما نواجه انقسامًا واضحًا بين “معسكر الخير” و”معسكر الشر” وخاصة عندما ينتحل “معسكر الخير” لنفسه “الحق” في منع الكلام لكل من يخالفه في الفكر. بهذا المعدل، أصبحت العديد من الموضوعات حساسة، وكما أشارت تالون-هوغون بحق، هناك مخاوف من أن ديكارت، أبو العقلانية، لن يتم تدريسه بعد الآن لأنه قارن الحيوانات بالآلات. وينطبق ذات الشيء على أرسطو، الذي “لم يعتبر العبيد بشرًا”.

بدلًا من الحوار البناء، نفضل الآن مونولوجاً جماعياً سطحياً لا معنى له.

حميّد بن عزيزة، أمين عام اتحاد الجامعات المتوسطية Unimed، والرئيس الأسبق لجامعة تونس.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى