مقالات رأي

«حرير الغزالة».. رواية عُمانية عن الحب والصداقة والتاريخ

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

تُحيط الأجواء التقليدية بعالم رواية «حرير الغزالة» منذ عتباتها الأولى. حيث تبرز أصداء التقاليد العمانية، ولهجة نسائها العامية ما بين صخب وفكاهة وحزن ونُواح، في بناء محلي حميمي تنحاز له الكاتبة العمانية جوخة الحارثي، والذي برزت به عبر روايتها الذائعة «سيدات القمر»، التي حصلت نسختها الإنجليزية Celestial Bodies على جائزة «مان بوكر» العالمية، عام 2019، في سابقة لم يعرفها أي كاتب عربي من قبل.

تفتتح الرواية بمشهد صادم يستدعي ثيمتي الولادة والموت في لحظة شجيّة مُتصلة. فنجد الأم وهي تُلقي برضيعتها حديثة الولادة، بعد أن تعلم بخبر وفاة والدها المُباغت وسط نُواح الجارات. لتصير تلك الرضيعة المُلقاة بلفتها في الهواء فيما بعد هي بطلة الرواية المركزية، التي تقود ذكرياتها بساط السرد.

صدرت الرواية عن دار «الآداب» في بيروت، العام الجاري، في 183 صفحة، وتنساب أحداث السرد بها عبر أربعة أبواب: حفلة الأوركسترا، زهو الحياة، مغنّي الملكة، وعام الفيل.

انقسام مُبكر

وجدت تلك الرضيعة نفسها في لحظة مصيرية وقد صار لديها اثنتان من الأمهات، أمها الأصلية «فتحية»  التي فقدت وعيها بعد خبر موت والدها، وأمها البديلة «سعدة»  التي التقطت تلك الرضيعة فرّقت لجوعها وبكائها فألقمتها ثديها وصارت منذ تلك اللحظة أمها بالرضاعة.

تتسع دائرة التيه، فتُطلق عليها أمها في الرضاعة لما آوتها إلى حضنها اسم «غزالة». وعندما استردتها أمها الحقيقية «فتحية» فيما بعد، سجلتها في شهادة الميلاد باسم «ليلى». إلا أن الجميع كانوا ينادونها بـ«غزالة»، ظلت «سعدة» بمنزلة الأم الحقيقية والأقرب بالنسبة لها، وزاد من أواصر تلك العلاقة ارتباطها الوثيق بـ«آسية» ابنة سعدة التي أصبحت بالتبعية أختها في الرضاعة.

يصحب «غزالة» مع تقدمها في العمر هذا الانقسام المبكر بين اسمين، واثنين من الأمهات. وظلّت طيلة حياتها تبحث عن الحب. فوقعت وهي في السادسة عشر في حب جارها عازف الكمان وتزوجته، ولكن ما يلبث جذوة هذا الحب أن تنطفئ بعد أن يقرر الزوج الرحيل من حياتها بعدما أنجبت منه توأم. لتصير أمًا وحيدة وهي في مُقتبل سنوات دراستها الجامعية.

يصحب «غزالة» مع تقدمها في العمر هذا الانقسام المبكر بين اسمين، واثنين من الأمهات. وظلّت طيلة حياتها تبحث عن الحب. فوقعت وهي في السادسة عشر في حب جارها عازف الكمان وتزوجته

في عالمها الجديد الملئ بتحديات الأمومة والدراسة والعمل، تتشبث البطلة بذكريات طفولتها البعيدة برفقة أختها في الرضاعة «آسية»، فتظل تلك الذكريات تنثال على مدار الرواية كومضات نور بعيدة، كرستها جوخة الحارثي لرسم مفارقات الحياة في القرية العمانية البسيطة، حيث كانت «غزالة» و«آسية» تلعبان في السهول وتسبحان في الأفلاج الصغيرة، وتحلبان البقرة «محبوبة»، وتلعبان مع القط «شيبوب» مرورًا بتعرضهما لمواقف صعبة في سنهما المبكر كملاحقة عمال لهن في طريقهن للمدرسة ومضايقتهن، فاعتادت «آسية» أن تملأ جيوبها بحصى صغيرة للدفاع عن نفسها وعن «غزالة».

أوراق حرير

رغم محورية الدور السردي لـ«آسية» إلا أن الكاتبة تُنهي حضورها مُبكرًا في الرواية، بعد أن تجبرها ظروف مأساوية مرّت بعائلتها على مُغادرة القرية لتجد «غزالة» نفسها وحيدة دونها، وتظل على مدار حياتها تبحث عنها حتى يتهيأ لها أنها تسمع صوتها في مداخلات صوتية لعدة برامج إذاعية وتلفزيونية. ورغم يقينها أنه صوت «آسية» التي لا تُخطئ نبرتها مهما مرّت السنين، إلا أن الرواية لا تُجزم بذلك ويظل مصير «آسية» بعد غيابها مُبهما حتى النهاية.

جوخة الحارثي ومترجمة روايتها
جوخة الحارثي ومترجمة روايتها “ٍسيدات القمر” للإنجليزية مارلين بوث. (المصدر: الصفحة الرسمية لجائزة مان بوكر).

ومع توالي غياب واختفاء عدد من شخصيات الرواية، يبقى حضورهم في الرواية كالأطياف التي لا تُفارق «غزالة» في معترك حياتها، فيما يصعد حضور صديقتها الجديدة «حرير»، التي تقوم في الرواية بتدوين يومياتها على مدار عشر سنوات من 2006 وحتى 2016.

اختارت جوخة الحارثي أن تتنقل في  السرد بين حياة «غزالة» و  أوراق «حرير» المكتوبة بلغة التدوين، بداية من كتابتها لتاريخ اليوم والشهر والسنة في بداية الصفحة وصولًا للغة الزمن الحاضر التي تتكشف فيها قصة لقائها بغزالة في الجامعة وصداقتهما، مرورًا بتأملاتها في حياة زميلاتها في الوحدة السكنية الجامعية، التي تعكس بها  الرواية أطيافًا واسعة للحياة الاجتماعية والفكرية لفتيات هذه المرحلة وتناقضاتها.

يتسع السرد عبر أوراق «حرير»، التي ترصد كثيرًا من المشاهدات  كعالمها الجامعي، ومرافقتها لوالدتها في رحلة علاجها الكيماوي في العاصمة التايلاندية «بانكوك».

سينما وأوركسترا

تُطل في الرواية روافد فنية مُتعددة، ما بين موسيقى وسينما وفنون بصرية، جميعها يلعب دورًا محوريًا في حياة أصحابها ومن حولهم. فهذا عازف الكمان الذي تُتيم به «غزالة» في صباها، الذي كان يحلم  بأن يصير عازفًا في الأوركسترا السيمفوني السلطاني. ليتتبع السرد مسار حلم هذا العازف منذ كان طفلًا في العاشرة يحلم بأن يصير ضمن هذه الأوركسترا الوطنية التي تذاع حفلاتها في التلفزيون العماني وصولًا لرحلة أسرته في إلحاقه بمؤهل المجلس المشترك لمدارس الموسيقى الوطنية في لندن. ويظل العازف بكل وهجه بمصاحبة الكمان شبحًا ترتقب «غزالة» ظهوره وعودته لها ولطفليهما.

تُطل في الرواية روافد فنية مُتعددة، ما بين موسيقى وسينما وفنون بصرية، جميعها يلعب دورًا محوريًا في حياة أصحابها ومن حولهم. فهذا عازف الكمان الذي تُتيم به «غزالة» في صباها

وفي سياق آخر، تقرر واحدة من شخصيات الرواية «العمّة مليحة» افتتاح صالة عرض سينمائي زهيدة في القرية، تُجهز لها الكراسي، وجهاز لعرض الأفلام على جدار أبيض مقابل بالصالة.

ورغم بساطة «مليحة» إلا أن الرواية تعكس حسّها التقدمي المُغامر وهي تستحدث فكرة عرض السينما الصغيرة لأبناء قريتها، تعرض لهم أفلام أفلاما مصرية مثل «خرج ولم يعد». إلا أن إحباطات العمّة مليحة تتوالى بعد أن يتخاذل أفراد عائلتها في مساندة حلمها السينمائي.

غلاف رواية
غلاف رواية “حرير الغزالة” – تصميم مصطفى علوان. (دار الآداب).

تعكس شخصية العمة مليحة كذلك أزمة الشخصيات الهامشية، التي تتطلع للوصول لمركزية الأحداث، فهي تفتتح صالة السينما الصغيرة وتضع الزينة على وجهها خصيصًا قبل عرض الفيلم وهي تنتظر التفات أهل القرية لها، وتشعر أنها على مدار حياتها كانت تسعى لاستقطاب اهتمام من حولها من عائلتها. حتى كان يوم وفاتها يوم تحقيق هذا الأمل : «ستموت وسيُجبرون على التفكير فيها، سيجتمعون كلهم من أجلها، سيتركون انشغالاتهم العظيمة وأعمالهم وأولادهم وأصدقائهم وسيأتون صاغرين للعزاء»، كما تصف الرواية بلسان راوِ عليم مشاعر «مليحة» وهي تستقبل الموت.

وفي فلك السينما كذلك تدور في الرواية قصة حب افتراضية عن بُعد بين «غزالة» وشاب عراقي يعيش في السويد يعمل رسام «كوميكس» (قصص مصورة).

تبذل «غزالة» من أجل إنجاح تلك القصة، عبر محادثات مواقع التواصل الاجتماعي، كل طاقتها في اختراع حكايات مسلية، ومشاركته شغفه بـ»الكوميكس» ، وفتح نقاشات حول أفلام «ديزني»  الأمريكية، وأفلام «الأنيمي»  اليابانية، القائمة على الرسوم والتحريك، والنقاش حول أكثرهما أصالة وفنية.

تراث خليجي

تتسرب ملامح الثقافة الشعبية في ثنايا السرد بشكل لا يمكن تفاديه، ويُعد في حد ذاته أحد أبرز مفاتيح الرواية.

فيظهر المكان القروي بكل تجلياته، من بيوت متجاورة، وعلاقات متشابكة، وموارد طعام زهيدة كبقرة سعدة «محبوبة»، التي كانت الوحيدة في القرية التي تمد أهلها بالحليب والزبد. وكذلك المرور على صنوف الطعام العماني التقليدي كحلوى جوز الهند الساخنة، والخبز العماني الهش، وكذلك طقوس رسم الحناء للسيدات ودلّات القهوة.

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

ويبرز السياق التاريخي الأوسع للحياة في الخليج. وجعلت جوخة الحارثي واحدًا من تجليات هذا السياق إبرازها لشخصيات الأجداد، وهدهدة أغانيهم العامية، وحكاياتهم الضاربة في جذور التراث.

كما نجد في الرواية أصداء لحكايات عن تجار اللؤلؤ، الذين تلاشت ثرواتهم وأمجادهم في الخليج، بعد انهيار صيد اللؤلؤ التقليدي مطلع القرن الماضي.

https://www.bue.edu.eg/
Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى