أخبار وتقارير

البحريني نادر كاظم لـ«الفنار»: حبس المعارف في صناديق التخصصات «سجن أكاديمي»

بعد مشوار بحثي دؤوب في قراءة تاريخ البحرين الحديث، توّج مجلس التعاون الخليجي، مؤخرًا، جهود الناقد البحريني الدكتور نادر كاظم (48 عامًا)، بتكريمه من الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، على هامش الاجتماع الخامس والعشرين، لوزراء الثقافة في دول المجلس، وتقوم الأمانة العامة بتكريم المبدعين، في دول المجلس سنوياً، خلال فترة انعقاد اجتماع وزراء الثقافة.

ينطلق مشروع «كاظم» البحثي من أرضية «النقد الثقافي»، والتعامل مع الدراسات البينية، التي تجمع بين علوم إنسانية عدة، وتستثمر مناهجها لتفكيك البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع البحريني.

وما يميز المنهج العملي لصاحب كتاب «المقامات والتلقي» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2003)، تحرره من قيود العمل الأكاديمي، حيث أنتج مؤلفات كانت في قلب السجال الدائر حول واقع البحرين، وما تعيشه من تفاعلات سياسية واجتماعية انعكست في المجال العام.

من هذه المؤلفات، «تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيّل العربيّ الوسيط» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004)، و«الهوية والسرد؛ دراسة في النظرية والنقد الثقافي» (مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، البحرين، 2006)، و«طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2007)، و«استعمالات الذاكرة، في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ» (مكتبة فخراوي، البحرين، 2008)، و«كراهيات منفلتة.. قراءة في مصير الكراهيات العريقة» (الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010)، و«خارج الجماعة.. عن الفرد والدولة والتعددية الثقافية» (دار سؤال، بيروت، 2016).

حين بلغ نادر كاظم مرحلة دراسة الماجستير في الأدب العربي، بدأ اهتمامه ينصب على نظريات القراءة والتلقي، وخاصة جمالية التلقي التاريخي لدى الناقد الألماني الشهير الراحل هانز روبرت ياوس (1921 – 1997). في مقابلة مع «الفنار»، يقول «كاظم»: «جئت إلى العمل الأكاديمي متحررًا من ضغوطه، فقد تحدد مساري سلفًا، بعدما نشرت سبعة من كتبي، ومارست مهمة النقد، وأنا خارج الجامعة».

«جئت إلى العمل الأكاديمي متحررًا من ضغوطه، فقد تحدد مساري سلفًا، بعدما نشرت سبعة من كتبي، ومارست مهمة النقد، وأنا خارج الجامعة».

نادر كاظم
 الأكاديمي والكاتب البحريني

«السجن الأكاديمي»

عبر مسيرة طويلة فى البحث، وصل «كاظم» إلى ما يسميه «التسامح التأويلي»، الذي قاده إلى صلب ما صار اهتمامًا أساسيًا فيما بعد، وهو نقد «العنصريات والتحيزات» من أي نوع كانت إثنية أم دينية أم اجتماعية.

كان موضوع رسالة كاظم للدكتوراه، هو «نقد تمثيلات الآخر الأسود في متخيل العرب خلال العصور الوسطى». ومنذ عام 2003، بعد الانتهاء من الدكتوراه مباشرة، أصبح هذا الموضوع هو شغله الشاغل، مع توسيع دائرة النقد، من نقد العنصرية تجاه السود إلى نقد الطائفية، وتفكيك خطاب الكراهية، ونقد الاستعمال المغرض للذاكرة الجمعية، ومواجهة اختزال التنوع في هوياتنا كأفراد ومجتمعات.

ويرفض كاظم  البقاء في حدود ما يسميه «السجن الأكاديمي»، أي أن يحبس الإنسان نفسه داخل صندوق أكاديمي اسمه التخصص الدقيق، بدعوى أن «الجامعة، من واقع اسمها، ذات طابع كوني University، أي جامعة ورابطة لتخصصات عديدة»، فالمحصلة – كما يقول كاظم – أن الجامعة «انتهت إلى حبس المعارف في صناديق التخصصات التي تزداد ضيقًا مع الزمن».

مجموعة من مؤلفات الأكاديمي والكاتب البحريني. (الصورة بإذن من نادر كاظم).
مجموعة من مؤلفات الأكاديمي والكاتب البحريني. (الصورة بإذن من نادر كاظم).

ويتابع: «تضغط (الجامعة)، بوعي وبلا وعي، على أساتذتها لتحويل كامل طاقتهم البحثية من أجل صعود سلم الترقي الأكاديمي الوظيفي داخل المؤسسة، لا من أجل الفهم والتفكير في العالم خارج صناديق تخصصاتهم».

ويرى نادر كاظم أن هذه المسألة «نزعة قاتلة للطاقات الإبداعية للأساتذة؛ لأنها تجعل الأكاديمي يبحث وينشر بالطريقة التي ترضي أصحاب التخصص المُكَرّسين، حتى يجيزوا أبحاثه، ليسلك، في أمان، مسار الترقي الوظيفي المنشود».

تاريخ الأشياء

قبل شهرين، أصدر نادر كاظم أحدث مؤلفاته، وهو كتاب «تاريخ الأشياء»، في خطوة تعكس ولعًا بأعمال المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل (1902-1985)، مؤسس مدرسة الحوليات التاريخية، وصاحب الكتاب الشهير «المتوسط والعالم المتوسطي»، عن «عالم البحر المتوسط». أراد «بروديل»، في كتابه أن يكتب تاريخًا شاملًا ليس لأمة من الأمم، ولا لحضارة من الحضارات، بل لبحر اعتبره «بروديل» مجموعة بحار في بحر واحد، وهو البحر الأبيض المتوسط.

قبل وفاته بأربعة أعوام، كتب بروديل، عام 1981، مؤلفًا فريدًا هو «هوية فرنسا»، حاول  فيه أن يضيّق الدائرة أكثر ليكتب تاريخًا شاملًا لبلد متوسطي واحد، وتحديدًا لفرنسا كمكان وأرض ومدن، ومقاطعات وأقاليم وحدود، واقتصاد وسكان، وأمراض وهجرات.

«تضغط (الجامعة)، بوعي وبلا وعي، على أساتذتها لتحويل كامل طاقتهم البحثية من أجل صعود سلم الترقي الأكاديمي الوظيفي داخل المؤسسة، لا من أجل الفهم والتفكير في العالم خارج صناديق تخصصاتهم».

نادر كاظم  

 يضيف المفكر البحريني  نادر كاظم: «أراد بروديل، في آخر عمره، أن يقدّم عملًا يثبت جدوى طريقته في التأريخ من خلال الاستناد إلى مثال متاح لجمهور واسع، فكان هذا العنوان (هوية فرنسا)، هو الأنسب لمثل هذا الغرض. إلا أن إسهامه الأهم جاء من ابتكاره لمفهوم الدورات طويلة الأجل longue durée أو الزمن المديد أو الزمن العميق».

ويتابع «كاظم»: «بفضل هذا العمل، تغيّر فهمنا للتاريخ على نحو جذري، إذ قام بتشريح التاريخ إلى أكثر من مستوى من مستويات الزمن، لتصور ما يمكن تسميته التاريخ الشامل للمكان، وبشره وكائناته، وشجره وحجره».

وكان هذا التشريح لطبقات التاريخ، هو الذي قاد «كاظم» إلى البحث عما يمكن تسميته «طبقة رابعة» في التاريخ، وهي«تاريخ الأشياء»؛ تاريخ الشوارع والجسور، والأنفاق والمعالم والمدارس والمكتبات، والمعابد والمقابر، وكل ما صنعه البشر وقطّع الزمن إلى نصفين: زمن ما كان قبله، وزمن ما صار بعده، بمعنى أن الحياة لا تعود كما كانت بعد أن يوجد هذا الشيء.

something didnt work here

يعتمد كتاب «تاريخ الأشياء» بالدرجة الأولى، على أرشيفات عديدة، بعضها رسمية عامة، وأخرى خاصة مثل الأرشيف البريطاني، وأرشيف متحف البحرين الوطني، وأرشيف شركة نفط البحرين (بابكو) ونشراتها الصحفية، وأرشيف وكالة أنباء البحرين، وأرشيف الجمارك، والصحف والمجلات القديمة، والجريدة الرسمية، وبعضها أرشيفات رقمية موجودة على مواقع عديدة على الإنترنت فضلا عن مجموعات أرشيفية خاصة موجودة لدى أفراد بعينهم. ويشير كاظم إلى أن البحث في الأرشيفات مسألة بالغة الصعوبة والتعقيد، لأن أغلبها «غير مفهرس».

الولع بالبدايات

كشف له بحثه عن تاريخ الأشياء مدى التحولات التي طرأت على الأفكار والبشر والأمكنة. ولذلك، يقول «كاظم»: «التأمل في الشيء، وهو يتكوّن في البدايات الأولى، يضعك وجهًا لوجه، لا مع طراوة الأشياء فحسب، بل مع عبقرية الفعل البشري وهو يبتكر أشياء جديدة لم تكن موجودة، ويؤسس لما سيأتي في المستقبل. ترسم هذه البدايات حدًّا بين ما كان، وما سيكون. إلا أن المأساوي في الأشياء العظيمة التي نصنعها أنها تصنعنا في نهاية المطاف، وتتحكّم فينا بصورة أشبه ما تكون بانقلاب السحر على الساحر. إنها أشبه بمعركة وجودية، نصنع الأشياء، ثم تصنعنا هذه الأشياء فيما بعد».

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

ويرى نادر كاظم أن أحد أهم اكتشافات رحلته البحثية الطويلة، إيمانه بأن ما تفرّقه الخطابات والصراعات الاجتماعية توحّده المدينة والأمكنة والأشياء. وتأسيسًا على هذه القناعة صاغ كتابه «لا أحد ينام في المنامة» (دار سؤال، بيروت، 2019)، الذي انشغل فيه بماضي العاصمة البحرينية الحافل بالتنوع الثقافي، في حين توجه بكتابه الجديد إلى تناول ما يسميه «التشابك بين الزمن الفردي والزمن الاجتماعي».

يقول كاظم: «على سبيل المثال، إذا فكرت في إنشاء الجسور، ستجد أن للجسور تبعات سياسية وجماعية وجغرافية متداخلة وبالغة الأهمية؛ فالجسر لا يعني فقط وصل ما فرّقته الجغرافيا، بل يعني، كذلك، انسيابية في حركة الحشود التي صارت أكبر وأعظم بحكم زوال الحواجز الجغرافية، بحيث صار بإمكان الناس أن تلتقي، الأمر الذي يعني قوة ضغط شعبي أكبر، كما يعني، على الضد من هذا، سهولة في انتقال الجيوش وقوات الأمن لقمع هذا الاحتشاد الكبير وتفريقه».

Countries

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى