أخبار وتقارير

التشكيلي إبراهيم البريدي يعيد عرائس «الليلة الكبيرة» إلى مسرح الحياة

لم يدر في خَلَد الفنان التشكيلي المصري إبراهيم البريدي، حين توقف، أمام بائعة عجوز تبيع قصاصات القماش الملون، في سوق شعبي بحي المرج شرق القاهرة، أنها ستغير حياته يومًا، لكن هذا ما حدث بالفعل عام 2017، عندما فاز بجائزة الدولة التشجيعية في الفنون، عن أعماله التي نسجها من بضاعة السيدة.

من قرية صغيرة، يزرع غالبية أهلها الياسمين، بمحافظة الغربية على أطراف دلتا النيل، جاء البريدي (58 عامًا) إلى القاهرة، في مغامرة يكررها أبناء الأقاليم، بين الحين والآخر، بحثًا عن ذواتهم تحت سماء العاصمة.

أراد الفنان، المولود عام 1963، اختبار موهبته في رسم الكاريكاتير، لكنه، بعدما نشر رسوماته في العديد من الصحف، لم يقنع بالنجاح الذي تحقق، وأراد إنجاز خطوات أخرى. وبينما كان يفكر في الأمر، وجد نفسه، ذات صباح،  في سوق شعبي بحي المرج بالقاهرة، أمام بائعة عجوز تجلس خلف كومة من القصاصات الملونة من بقايا القماش. كان سعر بضاعتها مغريًا جدًا، إذ لم يتجاوز سعر الكيلو ثلاث جنيهات مصرية. اشترى كيسًا واحدًا يزن نحو اثني كيلو جرام، وحين عاد إلى منزله طرح القماش أمامه. وبعد عدة ساعات، كان ميلاد أولى لوحاته.

استطاع «البريدي» تكوين أشكال من قصاصات القماش على مسطح اللوحة، ثم قام بتلوينها، وبعد أن انتهى، عرض أول لوحة على رسامي الكاريكاتير من رفاقه، وكان استقبالهم مدهشًا، كما يقول في مقابلة مع «الفنار»، بالتزامن مع انطلاق معرضه الأخير بقاعة «نوت»، في ضاحية الزمالك، وسط القاهرة، تحت عنوان: «الليلة الكبيرة».

ويحفل المعرض بعشرات اللوحات، التي تستلهم الأجواء الاحتفالية والكرنفالية، التي نقلها الأوبريت الغنائي المصري الشهير «الليلة الكبيرة»، الذي كتبه الشاعر صلاح جاهين (1930 – 1986)، ولحنّه سيد مكاوي (1928 – 1997)، وأخرجه صلاح السقا (1932 – 2010)، لمسرح العرائس بالقاهرة عام 1961، حيث كان المسرح المصري، وقتها، يعيش أزهى فترات الازدهار.

«تحولت اللعبة إلى طريقة عمل وأسلوب، واشترى فنان الكاريكاتير الكبير الراحل مصطفى حسين (1935 – 2014) أولى لوحاتي، حين طلب مني أن أضع سعرًا لها، اقترحت خمسة عشر جنيهًا، لكنه ضحك ودفع مائة جنيه. أغراني الأمر بالاستمرار لأن الخامات كانت رخيصة جدًا».

إبراهيم البريدي  
الفنان التشكيلي

وتحتفظ لوحات «البريدي» بطاقة لونية في أذهان من يعرفون الأوبريت الشهير، وعندما يقف رواد المعرض أمام اللوحات يستردون مشاعرهم وذكرياتهم  كلها  لجلب المزيد من الفرح.

«تحولت اللعبة إلى طريقة عمل وأسلوب، واشترى فنان الكاريكاتير الكبير الراحل مصطفى حسين (1935 – 2014) أولى لوحاتي»، يضيف «البريدي» متحدثًا عن مشواره مع الفن. ويواصل مبتسمًا:  «حين طلب مني أن أضع سعرًا  لها، اقترحت خمسة عشر جنيهًا، لكنه ضحك ودفع مائة جنيه. أغراني الأمر بالاستمرار لأن الخامات كانت رخيصة جدًا».

شيئًا فشيئًا، توالت أعمال الفنان. تنافس أكثر من صديق له على اقتناء لوحاته؛ لجمالها وأسعارها الزهيدة. وحين سألوه، بفضول المعجبين، عن الطريقة التي يعمل بها، أجابهم: «المرج خيط»، ابتهاجًا بالحي الذي كان يعيش فيه عندما خرجت أولى محاولاته الفنية إلى النور.

بدايات التجربة

يتذكر صاحب معرض «الليلة الكبيرة» ليلة أن طلب منه صديقه، الفنان سمير عبد الغني، التجهيز لمعرض خاص، مثّل نقطة انطلاق رئيسية لتجربته. يقول «البريدي»: “قال لي عبد الغني: هناك منافسة  شرسة بين فناني الكاريكاتير، فضلًا عن وجود صراع على المساحة في الصحف، ولدينا عشرات الفنانين، بينما نحن في حاجة إلى فنان يعمل بطريقتك، وعليك أن توجه كل طاقتك لأجل هذه المهمة. هنا بدأ التحول في مسيرتي من رسام كاريكاتير إلى تشكيلي مغرم بالليلة الكبيرة«.

ويفسر «البريدي» هذا الغرام بإعادة رسم عرائس الأوبريت، بنفس ملامحها الشائعة: «إن شخصيات  عرائس الليلة الكبيرة لها ملامح واضحة، لكن مبدعها ناجي شاكر قدّم عرائسه للتحرك على المسرح، بينما أردت الحفاظ على ملامحها لتطريز سطح اللوحة القماش باستعمال القصاصات، مع حرص بالغ على الاحتفاظ بالمفردات والشخوص لتأكيد فكرة الأيقونات الشعبية الملونة (للعرائس)، وهي فكرة لا يجوز التفريط فيها».

“المرج خيط”

لا ينتمي إنتاج «البريدي» للنمط التشكيلي الشائع؛ فأعماله ليست لوحات زيتية، أو منحوتات، ولا هي أعمال تنتمي لفن التجهيز في الفراغ، بل أقرب إلى لوحات شعبية فطرية نفذها الفنان بطريقة ابتكرها، وأطلق عليها اسم «المرج خيط»، ويقوم الفنان بتشكيل لوحته مستخدمًا قصاصات القماش الملونة، من فضلات عملية الحياكة. بعد ذلك يضعها الفنان على مسطح قماشي مشدود «التوال»، ثم يؤطرها بالخيط.

وسبق أن قدّم أربعة معارض، دارت حول عوالم أوبريت «الليلة الكبيرة». وعن ذلك، يقول «البريدي»:  «بعد ستين عامًا من إنتاج الفنان الراحل ناجي شاكر (رائد مسرح العرائس المصري 1932 – 2018)، عرائس أوبريت الليلة الكبيرة، تحولت تلك العرائس إلى أيقونات بصرية شعبية خالدة وملهمة للكثير من الفنانين، فقد استلهمها الفنان التشكيلي خالد سرور في معرض بنفس العنوان، وأعادت فرقة باليه القاهرة تقديم العرض، وهذا يدل على عمق تأثير الأوبريت في الوجدان الشعبي؛ فهو لا يزال حيًّا، ويُعاد تقديمه حتى اليوم في مناسبات مختلفة».

«هذه النظرة تسعدني، فالقرية عامل أساسي في تكويني كفنان يعمل بطريقة تلقائية، وهذا ليس عيبًا؛ فالفنان الفطري لا ينظر إلى الكتلة أو الأبعاد الفنية، لأنه يواجه اللوحة بحرية مطلقة، متحررًا من المعايير الأكاديمية وما يشغله هو أن يسعد نفسه، وصناعة البهجة لدى المشاهد».

إبراهيم البريدي  

يطمح «البريدي» إلى إثارة البهجة في نفوس من يشاهد لوحاته، ويقول: «أريد لمن يشاهد لوحاتي أن يبحث عن صورته داخلها». كما لا يشعر بالارتياح لتصنيف إنتاجه في إطار «الفن الشعبي»، مبديًا اعتزازه بالنظر لأعماله كخطوة متقدمة من عمل الفنان الشعبي، ويقول: «هذه النظرة تسعدني، فالقرية عامل أساسي في تكويني كفنان يعمل بطريقة تلقائية، وهذا ليس عيبًا؛ فالفنان الفطري لا ينظر إلى الكتلة أو الأبعاد  الفنية، لأنه يواجه اللوحة بحرية مطلقة، متحررًا من المعايير الأكاديمية وما يشغله هو أن يسعد نفسه، وصناعة البهجة لدى المشاهد».

في سنوات وجيزة، نجح «البريدي»  في بناء اسم تجاري وفني، ربما بسبب قدرته على إعادة الاعتبار للخامات البسيطة، وقدراته في استعمال قصاصات الأقمشة الشعبية كخامات تشكيلية على سطح «التوال»، وتميزها عن أساليب فناني الخيامية (الأقمشة الملونة التي تستخدم في السرادقات)، أو أعمال النسجيات الشعبية التراثية.

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

للحفاظ على أسلوبه الفني، ونشره، يسعى «البريدي» إلى تدريب العديد من الفنانين الشباب، في ورش عمل منتظمة، بدأ تنفيذها منذ العام 2005. وبلغ عدد من شاركوا فيها، نحو ثلاثة آلاف طالب جامعي من كليات فنية عدة.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى