مقالات رأي

هل نحتاج إلى التطعيم ضد الإدمان الرقمي؟

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام)

يمكن أن تُظهر بعض أشكال الاستخدام المهووس، والمفرط للوسائط الرقمية، أعراضًا تُدرج في العادة ضمن السلوكيات الإدمانية. ويشمل هذا: تفضيل الاستمرار في استخدام التكنولوجيا، على الرغم من تعارضه مع أولويات الحياة الأخرى، والاعتماد الشديد على التكنولوجيا لتغيير الحالة المزاجية، والهروب من الواقع والشعور بالسعادة من خلال ذلك، والمحاولات المتكررة للحد من هذا الاعتماد دون نجاح، والقلق والتوتر عندما يكون المرء غير قادر على تأمين الوصول إلى التكنولوجيا بالقدر الذي يحلو له.

لا يزال البحث حول أسباب ظهور مثل هذا «الإدمان الرقمي» عند بعض الأشخاص طور النشوء. تتعلق بعض الأسباب بالبيئة نفسها؛ على سبيل المثال، قد يؤدي وجود آباء يفرطون في استخدام التكنولوجيا إلى جعل هذا السلوك يبدو طبيعيًا لدى أطفالهم. ترتبط الأسباب الأخرى للإدمان الرقمي بميل الإنسان إلى الامتثال والحاجة إلى أن يكون جزءًا من مجموعة. وهذه الحاجة تظهر عادة لدى لاعبي ألعاب الإنترنت الجماعية، ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتبادلون «رد الجميل»، من خلال الالتزام بقبول اللعب والتفاعل فيما بينهم، رغم ظروفهم والتزاماتهم الأخرى.

يرى البعض بأن تصميم الوسائط الرقمية يساعد في ظهور الإدمان على استخدامها. يحصل هذا من خلال استغلال هذه التصاميم للتحيزات البشرية، من خلال تسهيل بعض الخيارات، مثل النشر، والتغريد، والتصفّح اللا متناهي، وتصعيب خيارات أخرى، مثل إلغاء الحساب، أو حذفه، أو تجميده.

«يرى البعض بأن تصميم الوسائط الرقمية يساعد في ظهور الإدمان على استخدامها. يحصل هذا من خلال استغلال هذه التصاميم للتحيزات البشرية، من خلال تسهيل بعض الخيارات، مثل النشر، والتغريد، والتصفّح اللا متناهي، وتصعيب خيارات أخرى».

ركزت معظم الأبحاث، المتعلقة بهذا الموضوع، على علم نفس المُستخدِم، ودرست أسباب تحول المستخدمين إلى مدمنين، والقياسات النفسية المرتبطة بهذا السلوك. بدرجة أقل، ركزت الأبحاث على أساليب الوقاية، وكذلك أساليب العلاج. تباينت الأساليب المتوفرة بين تلك الموروثة من العلاجات التقليدية، مثل العلاج السلوكي المعرفي وصولًا إلى تلك المتعلقة بحملات التوعية والتثقيف. ومؤخرًا، برزت الحلول المبتكرة التي تعتمد على التكنولوجيا نفسها، لمساعدة المستخدمين على تنظيم استخدامهم، من خلال وضع حدود لاستخدامهم، وتتبع أدائهم فيما يتعلق بالالتزام بها. مع ذلك، ليس هناك أدنى دليل على أن أيًا من هذه الحلول المقترحة فعّال حقًا على المدى الطويل.

في مجموعتنا لأبحاث التكنولوجيا والسلوك (i-Solouk)، بكلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة، في قطر، نقوم بالبحث عن حلول مبتكرة لهذه المشكلة، من خلال الاستفادة من مبادئ نظرية التطعيم النفسي.

بكلمات بسيطة، تنص النظرية على أن تعريض الناس لنسخة ضعيفة من حجة ضارة، أو صعبة، سيحفز عملية تكوين حجتهم لدحضها. وفقًا لذلك، يجب أن يشعر الشخص بالحاجة إلى تطوير، أو معالجة الحجج المضادة، والتي ستساعده بعد ذلك على مقاومة إغراء اتباع السلوك غير المرغوب فيه، التي تدعو إليه تلك الحجج الضارة. يشبه هذا عملية التطعيم التقليدية، عندما يتم إعطاء الشخص نسخة ضعيفة من الفيروس، لتحفيز جهاز المناعة على إنتاج الأجسام المضادة.

وبينما يبدو منهج التطعيم، أو التلقيح السلوكي، مشابهًا لحملات التوعية والتثقيف، إلا أن هناك اختلافات جوهرية في كيفية توصيل الرسائل وإجراء التدخلات، إذ يجب تفعيل الإدراك المعرفي في المتلقّين من خلال جعلهم يشعرون بأن معتقداتهم، ومستوى ثقتهم بالقضية قيد المساءلة.

على سبيل المثال، إحدى طرق زيادة إحساس لاعبي ألعاب الإنترنت بالخطر، في سؤالهم: «هل تعرف حقًا كيف تقول لا لزملائك اللاعبين وتتوقف عن اللعب؟». ومن ثم يمكن إعطاء اللاعبين سيناريوهات، ويُطلب منهم تدوين كيف سيرفضون مواصلة اللعب، أو حتى بدء اللعب.

باستخدام التكنولوجيا، يمكن تقوية عملية «التطعيم» بشكل فريد. ففي حالة الإدمان الرقمي، يمكن تحدي أي شخص إنتاج حجة مستنبطة من سلوكه الفعلي، مثل مقدار الوقت الذي يقضيه، ونوع التفاعلات التي يقوم بها عبر الإنترنت، ومراقبة ذلك من خلال برمجية. وبالتالي، يمكن شخصنة التهديدات، والحجج، ودحض الحجج لتصبح أكثر ملائمة للمتلقّي.

«مع انتشار وباء كوفيد-19، أصبحت العلاقة مع التكنولوجيا أكثر إشكالية، لاسيما بعد امتزاج استخدامها بالعمل من المنزل، والتعلم عن بعد، وأصبح من الصعب فصل الاستخدامات الأساسية، عن الاستخدامات غير الضرورية».

وبالتماهي مع الطب الدقيق، يمكن اعتبار ذلك بمثابة «تطعيم نفسي» دقيق بطريقةٍ ما. القدرة الأخرى التي تتمتع بها التكنولوجيا هي إمكانية توقيت الرسائل، لتلائم سياق الاستخدام، وكذلك جمع رد فعل المتلقّي بشأنها بنفس الوقت. يمثل هذا فرصة غير مسبوقة للبحث مقارنة، بالتطعيم المعتاد في العالم الفيزيائي، كما هو الحال مع الملصقات على السجائر، وجلسات التوعية السلوكية في الفصول المدرسية، وما شابه ذلك.

بالتعاون مع المدرسة السويسرية الدولية، وهي مدرسة دولية بارزة مرتبطة ببرنامج البكالوريا الدولية في الدوحة، نقوم باختبار جدوى هذا النهج. وتهدف الشراكة أيضًا إلى ضمان أن تكون تصاميمنا، وحلولنا متوافقة مع السياق، وتناسب الإطار الاجتماعي والثقافي لدولة قطر والمنطقة العربية. هناك حاجة ماسة لمثل هذا التوافق، لزيادة فرص النجاح، وتقليل فرصة حدوث ردود فعل غير مرغوب فيها.

سنبدأ بمحاولة التعامل مع حالة إدمان وسائل التواصل الاجتماعي، ونقوم بالتطعيم من خلال تحدي الطلاب، لمعرفة ما إذا كانوا يعرفون أعراض الإدمان الرقمي، أم لا، وكيفية تكونها، ودور تصميم وسائط التواصل الاجتماعي في تحفيزها. سنختبر أيضًا ما إذا كان هذا التطعيم ينتقل إلى السلوكيات الإلكترونية الأخرى، وبالتحديد مقاومة هجمات الهندسة الاجتماعية، نظرًا لبعض التشابه بين المسألتين، والذي يمكن اعتباره «متحوّرات» من نفس المادة.

أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.

مع انتشار وباء كوفيد-19، أصبحت العلاقة مع التكنولوجيا أكثر إشكالية، لاسيما بعد امتزاج استخدامها بالعمل من المنزل، والتعلم عن بعد، وأصبح من الصعب فصل الاستخدامات الأساسية، عن الاستخدامات غير الضرورية. نأمل أن يكون مشروعنا حلًا غير مكلف نسبيًا، ويمكن أن يصل إلى أوسع جمهور، من خلال المدارس، ومنصات الإنترنت نفسها.

* الدكتور ريان علي، أستاذ تكنولوجيا المعلومات والحوسبة، بكلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة، في قطر.

* الدكتورة دينا آل ثاني، أستاذة مساعدة، ومديرة البرامج متعددة التخصصات، بكلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة، في قطر.

Countries

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى