أخبار وتقارير

موسم الهجرة إلى كتابة التاريخ خارج الأسوار الأكاديمية.. جدل نقدي

عبر كتابات تعتمد طرقًا متنوعة في السرد، تشهد حركة النشر المصرية، ما يعتبره نقاد تناميًا في صدور مؤلفات ذات صلة بالتاريخ، لكُتّاب من خارج الحقل الأكاديمي.

ويرى بعض هؤلاء النقاد، أن الكثير من إصدارات العام 2021، ومطلع العام 2022، اعتمدت إعادة النظر في الماضي، بغرض تناول سير رموز ثقافية وسياسية، أو تأمل بعض الوقائع التاريخية، انطلاقًا من الخيال الروائي.

وشهدت الأشهر الماضية، صدور مؤلفات أعادت استعمال التاريخ والأرشيفات، سعيًا وراء بناء سرديات جديدة ومغايرة لما هو شائع، منها: كتاب الشاعرة إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات»، الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب (2021)، وكتاب الصحفي محمد شعير «أعوام نجيب محفوظ الأولى.. البدايات والنهايات»، كاشفًا عن سيرة مجهولة كتبها الروائي الحائز على نوبل في شبابه، تأثرًا بكتاب «الأيام» لطه حسين.

وبالمثل، نشر الشاعر محسن البلاسي كتابًا عن المخرج كامل التلمساني، بعنوان: «رحلة كامل التلمساني»، نال مؤخرًا جائزة مؤسسة ساويرس (2022) في حقل النقد الأدبي. وجاء كتاب «إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا» لأستاذة الأدب بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، سامية محرز، ليجمع بين الجانب الشخصي في دراسة شخصية الشاعر، وعائلته وبين الجانب الموضوعي في تقييم منجزه الأدبي.

على صعيد التخييل الروائي،  ظهرت رواية «غيوم فرنسية» للروائية ضحى عاصي، عن مصائر المصريين الذين خرجوا مع جنود الحملة الفرنسية على مصر، بعد عودة الحملة إلى فرنسا. كما تناولت رواية «حانة الست» ” للروائي محمد بركة، سيرة المطربة المصرية الشهيرة أم كلثوم.

«جائحة كورونا، وما ترتب عليها من إجراءات احترازية، كرّست للعزلة والتباعد، وزادت بالتالي من الشعور بقسوة الواقع، كما أوجدت حالة من الحنين إلى الماضي، والعودة إلى التاريخ لتأمل وقائعه».

حاتم حافظ
الأستاذ بقسم النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية

ومؤخرًا، صدرت رواية للصحفي إبراهيم عيسى، تحت عنوان: «رصاصة في الرأس»، لتؤكد ذلك الاتجاه نحو كتابة التاريخ، حيث تتناول قصة مقتل الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري السابق (1915 -1977) على يد تنظيم مسلح كان يقوده الجهادي شكري مصطفى. وفي هذه الرواية يواصل «عيسى» مشروعه لتناول فترات من تاريخ مصر، من منظور روائي متخيل، كما فعل في روايته «كل الشهور يوليو»، التي دارت حول الضباط الأحرار وصراعهم حول السلطة طيلة فترة حكم الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر.

عن ذلك، يقول الناقد الدكتور حاتم حافظ، الأستاذ بقسم النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية، إن هذه الموجة من الكتابات تعتمد على التاريخ بصورة كاملة، ويكتبها روائيون يمتلكون قاعدة جماهيرية «واسعة»، مثل أحمد مراد، وأشرف العشماوي، وإبراهيم عيسى.

ويضيف أن بعض الأكاديميين يميلون إلى كتابة سرد تاريخي يعتمد على التخييل، مثلما فعلت الدكتورة سامية محرز في كتابها عن الشاعر إبراهيم ناجي. وكما فعل المؤرخ محمد عفيفي في روايته «يعقوب»، الصادرة منتصف العام الماضي، والتي تمزج سيرة ذاتية لمؤرخ معاصر، مع سيرة  الجنرال يعقوب الذي تبنى مشروعًا لاستقلال مصر عن الدولة العثمانية، وتعاون مع جنود الحملة الفرنسية (1798-1801) بغرض حكم مصر، لكنه مات بعد أن غادر مع الحملة.

من حفل إطلاق رواية للصحفي إبراهيم عيسى، تحت عنوان: «رصاصة في الرأس»
من حفل إطلاق رواية للصحفي إبراهيم عيسى، تحت عنوان: «رصاصة في الرأس»

ويعتبر «حافظ» أن هذا الاتجاه «محاولة للفرار من ضغوط اللحظة الراهنة، لأن الواقع مثقل بتساؤلات وهموم عالمية ومحلية». ويتابع قائلًا: «جائحة كورونا، وما ترتب عليها من إجراءات احترازية، كرّست للعزلة والتباعد، وزادت بالتالي من الشعور بقسوة الواقع، كما أوجدت حالة من الحنين إلى الماضي، والعودة إلى التاريخ لتأمل وقائعه».

ويضيف رئيس النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية: «ليس شرطًا أن تنجح كل المؤلفات في إنتاج معرفة بديلة خارج السياق الأكاديمي، لكن يكفيها أنها أثارت تساؤلات لدى القراء حول التاريخ».

من جهته، يعتبر الناقد محمود عبد الشكور أن العام المنصرم كان «عامًا ذهبيًا» للتعامل مع المادة التاريخية، عبر التخييل الروائي، أو السرد التاريخي، اعتمادًا على أرشيفات ووثائق. ويقول إن أي كتابة عن الماضي تنطلق من «عين الحاضر» وتحمل أسئلته، فالتاريخ «أكبر من أن يترك للمؤرخين فقط».

ويضيف «عبد الشكور» أن المادة التاريخية «مغرية فنيًا، والفنان يتعامل مع التاريخ ببصيرة أكبر، وبالتالي فإن التوجه إلى التاريخ ظاهرة صحية بمعايير الفن، وليس بالمعايير الأكاديمية».

بدوره، يقول الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة القاهرة، إن ظاهرة إعادة النظر في الماضي ترافق عمليات التحول الكبرى. ويضيف: «حدث هذا في أوروبا، بعد ثورات الشباب في العام 1968. وهذه العملية تأتي عادة من خارج الحقل الأكاديمي، عبر الصحافة وصناع الأفلام الوثائقية، والروائيين، ثم تمتد إلى المجتمع».

: «حدث هذا في أوروبا، بعد ثورات الشباب في العام 1968. وهذه العملية تأتي عادة من خارج الحقل الأكاديمي، عبر الصحافة وصناع الأفلام الوثائقية، والروائيين، ثم تمتد إلى المجتمع».

محمد عفيفي
أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة القاهرة

وفيما يرى أن هذا التوجه ساعد على ظهور ما يسمى بـ«التاريخ البديل»، يقول إن المنطقة العربية شهدت «تحولات قاسية» بعد العام 2011، و«من الطبيعي أن يدفع ما جرى نحو بناء سرديات تخالف التاريخ الرسمي».

ويعتبر أستاذ التاريخ المعاصر، اللجوء لكتابة سرديات تاريخية جديدة «ظاهرة إيجابية تمامًا»، ويقول إنه «من الطبيعي أن تأتي (الظاهرة) من خارج المؤسسات الأكاديمية، لأن هذه المؤسسات تكون محافظة بطبيعتها». ومع ذلك، يشير إلى «وجود أجيال جديدة من المؤرخين يكتبون بحرية كاملة، وبتحرر من القيود كافة باستثناء القواعد المنهجية، ليتمكنوا من التغيير».

وعن تجربته الشخصية، يؤكد «عفيفي» الاستمرار في نهج الكتابة التي تحاول الجمع بين الخيال والسرد التاريخي، فالرواية «تسمح بتمرير أشياء يعجز عنها المؤرخ»، وفق تعبيره.

أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.

كما تحدثت سامية محرز عن تجربتها في تأليف كتاب: «إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرًا»، مبدية  دعمها لمحاولات إعادة النظر في تاريخ الوقائع أو الشخصيات. وتقول: «كثير من المشتغلين بالبحث في العلوم الإنسانية لديهم شكاوى من صعوبة فحص الواقع الراهن، والحصول على إفادات ومعلومات بشأنه، لأن الحاضر شائك وملغوم، ومن ثم أصبحت العودة إلى الماضي، وسيلة آمنة، ربما، لفهم ما يجري الآن».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى