أخبار وتقارير

من التعليم الديني إلى نقد الحداثة.. موجز سيرة صلاح فضل مع علم النص

في وقتٍ مبكرٍ من العمر، أراد الناقد المصري الراحل، الدكتور صلاح فضل، أن يكون شاعرًا، أو كاتب قصة، لكنه لم يرض عن نفسه، فآثر احتراف النقد حتى وافته المنية، أمس (السبت)، تاركًا خلفه إنتاجًا غزيرًا، يربو على الأربعين كتابًا، والكثير من البحوث العلمية التي قدّمها آخرون حول تجربته المعرفية في علم النص، وعلوم النقد.

صلاح فضل.. سيرة نقدية

كان لم يتجاوز العاشرة حين حمل برقية من جده إلى صديق له تولى وكالة الجامع الأزهر، ليرسلها عبر التلغراف. كانت البرقية تقول: «دوامًا ترقى ونهنئ». قرأها الصبي، الذي فقد والده وهو في الرابعة من العمر، وقال لجده: «هكذا لن يكون من الضروري عندما يصبح شيخًا للأزهر أن تبعث له بتهنئة أخرى، فقد تمنيّت له الترقية التالية، وهنّأته عليها بالفعل في ثلاث كلمات، قلية التكلفة». قال الجد لحفيده: «ستصير ناقدًا».

وكما يخبرنا في كتابه المعنون: «عين النقد وعشق التميز.. مقاطع من سيرة فكرية» (دار بتانة للنشر، القاهرة، 2018)، فقد جرّب الفتى كتابة الشعر، عبر قصيدة لتهنئة الملك فاروق بزواجه من ناريمان، ثم توقف ليسأل نفسه: «هل يمكن أن أكون أشعر من (أحمد) شوقي؟» ووصل إلى نتيجة قاطعة: «لم أتفوّق عليه»، وقال في نفسه: «انتصر الناقد على أعدائه، فلأتأهب لهذه الرسالة».

صلاح فضل ومسيرته التعليمية

من مدرسة مدنيّة إلى التعليم الأزهري، نزولًا على رغبة جدّه، مضى صلاح فضل في مسيرته، حتى يُعوّض غياب والده الذي رحل وهو في عامه الأخير في تخصص القضاء الشرعي. وكانت النقطة الفارقة في تلك المرحلة من حياته، عندما التحق عمّه، عبد الغني، بكلية الحقوق بجامعة القاهرة. انتقل الفتى، رفقة العم، ليدرس بالمعهد الثانوي في عاصمة البلاد.

«سددت ضربات نقدية حاسمة للبلاغة التقليدية، كاشفًا عن عوارها وعدم علميتها، مع أننا لا نزال نتعبد بها في دراساتنا الأكاديمية، ونتجنبها في الممارسة النقدية».

الناقد المصري الراحل الدكتور صلاح فضل.

ويقول عن تلك المرحلة إنه كان يقرأ لعمّه، طالب الحقوق، جميع مواد وكتب القانون الدستوري، والمدني، والجنائي، والإجراءات، والاقتصاد، والنظريات المطولة عن القانون الروماني. وهنا، اكتشف أن العالم الضيّق الذي تُصوّره العلوم الأزهرية «محدود وفقير وقديم»، بعدما أعادت مواد الحقوق صياغة عقله بالنظم السياسية، والتشريعات الاقتصادية، والاجتماعية، والوعي بمراحل تطور الحضارة الإنسانية، قبل أن يلتحق بكلية دار العلوم، مودعًا الجُبّة والعمامة.

الدراسة في إسبانيا

في العام 1965، انتقل إلى إسبانيا للدراسة بجامعة مدريد المركزية، في منحة أنقذته من إلغاء الحكومة المصرية، وقتذاك، البعثات لندرة العملة الصعبة (الدولار الأمريكي). وبعد عامين من شظف العيش ومرارته في إسبانيا، ظفر بمنصب أستاذ مساعد لتدريس الأدب العربي وترجمته بالجامعة، ليؤسس لمشروعه النقدي، عبر كتابين، أحدهما عن منهج الواقعية في الإبداع الأدبي، أما الثاني، والذي يصفه بأنه أحدث تحولًا حاسمًا في مسيرة النقد العربي، فكان: «نظرية البنائية في النقد الأدبي».

وعن ذلك الكتاب، يقول إنه عانى مسؤولية صياغة المصطلحات العربية الأولى، وكتبه بمنهج مخالف تمامًا، وسابق على كل الملخصات التي عُرفت بنظرية البنيوية، وتطبيقاتها في الشعر والسرد. ويقول الناقد الراحل إنه مزّق الصيغة الأولى لكتابه، «لعدم اقتناعه بها»، وعندما همّ بتمزيق المسودة الثانية أدرك أنه لن يفلح في إنجازه، فنشره باعتباره تجربة سيعيد تحريرها لاحقًا، لكن سرعان ما عدل عن ذلك، لإدراكه أنه لو فعل، فسوف لا ينجز في حياته سوى كتاب واحد «لن يرضى تمامًا عنه».

صلاح فضل والكوميديا الإلهية لدانتي

وكان من كتبه اللافتة: «تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي»، ويقول عنه إنه «أكمل بحث في الأدب المقارن، كلّفني سنوات طويلة من الجهد لإتمام حلقة الوثائق المحققة لمقولة المستشرق الإسباني العظيم، أسين بالاثيوس، في أن عبقري اللغة الإيطالية، وفيلسوف اللاهوت المسيحي، دانتي، قد استقى من معين الثقافة الإسلامية، بروافدها الشعبية الخصبة، وخيالها الديني العريض».

مجلة فصول

وفي الأعوام الخمسة الأولى من الثمانينيات، شارك الدكتور صلاح فضل في «تجربة نقدية فاصلة»، وهي تأسيس مجلة «فصول»، مع رفيقي دربه: عز الدين إسماعيل، وجابر عصفور، برعاية الشاعر صلاح عبد الصبور، وإعلان مولد الحركة النقدية الجديدة في الوطن العربي، بمشاركة عبد السلام المسدّي من تونس، وكمال أبو ديب من سوريا، ومحمد برّادة من المغرب.

أنضج كتاب نظري للناقد المصري صلاح فضل

ويصف صلاح فضل كتابه «بلاغة الخطاب وعلم النص»، بأنه أنضج كتبه النظرية، ويقول إنه تضمن «أبرز معالم التقدم في العلوم الحافة بالأدب، وهي علوم اللغة، وعلم النفس، والجمال، والشعرية»، ليبرهن على حتمية تطوير البلاغة الحديثة المتأثرة بها». ويضيف: «سددت ضربات نقدية حاسمة للبلاغة التقليدية، كاشفًا عن عوارها وعدم علميتها، مع أننا لا نزال نتعبد بها في دراساتنا الأكاديمية، ونتجنبها في الممارسة النقدية».

ثم يُعلّق: «أحسب أن هذا الكتاب لم يحدث تأثيره الثوري في الجامعات العربية بالقدر المنشود، حيث يعد نموذجًا لما يمكن للناقد العربي أن يصنعه في نقد تراثه، وتجديد خطابه المعرفي، ونقله إلى قلب إشكاليات المنهجيات العلمية المحدثة».

اقرأ أيضًا: (الطبعات المصرية للأعمال الأدبية..ولادة جديدة لمؤلفات المبدعين العرب).

وفيما تصفه رسالة دكتوراه للباحث سالم ياسين الفقير (كلية الدراسات العليا بجامعة مؤتة، 2015)، بأنه واحد من النقاد العرب الذي كان لهم «الأثر الواضح في ميادين الدراسات النقدية»، يقول الكاتب والناقد المصري إيهاب الملّاح إن الدكتور صلاح فضل «ربما يكون آخر ما يمكن أن نطلق عليه جيل الأساتذة النقاد الكبار العظام الموسوعيين، أصحاب الإسهامات الأصيلة. لا أقول فقط، في النقد العربي المعاصر، وإنما في مجمل الحركة الفكرية والثقافية والمعرفية في نصف القرن الأخير».

استطاع الدكتور صلاح فضل ريادة ما يُعرف بنقد الحداثة وما بعدها، ضمن حركة بدأت في مصر، منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتى نهاية القرن العشرين.

الكاتب والناقد المصري إيهاب الملّاح.

ويضيف «الملاح»، في تصريح لـ«الفنار للإعلام» أن الدكتور صلاح فضل، أصبح، عقب نيله درجة الدكتوراه في الأدب الأندلسي، والأدب المقارن، من جامعة مدريد المركزية، أحد أبرز الباحثين والدارسين الذين ساهموا في تأسيس مدرسة مصرية في الدرس المقارن، وفي مناهج النقد الأدبي. وقد استطاع ريادة ما يُعرف بنقد الحداثة وما بعدها، ضمن حركة بدأت في مصر، منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتى نهاية القرن العشرين.

ويتابع: «كان ضمن كوكبة من النقاد، مع د. جابر عصفور، ويمنى العيد من لبنان، ومحمد برادة من المغرب، ومن قبلهم الجيل الأسبق، الدكتور عز الدين إسماعيل، وغيرهم، هم رأس الحربة في تجديد الحركة النقدية العربية، بفتح الباب واسعًا للتعريف، وعرض الأفكار التي قدمتها المذاهب والتيارات النقدية الحديثة، فيما عرف بالحداثة وما بعدها، منذ البنيوية ثم التفكيك، ثم الأسلوبية، ثم السيميولوجيا، ووصولًا إلى النقد الثقافي».

كان الدكتور صلاح فضل أحد الذين ساهموا مساهمة كبرى في عرض أفكار هذه التيارات والمناهج النقدية، وكان من المتمكنين في شرح وتيسير هذه المذاهب التي عرفت بصعوبتها الشديدة، نظرًا لارتباطها بسياقات معرفية وفلسفية لها علاقة بتطور الثقافة الغربية، بحسب «الملاح». ويضيف الناقد المصري: «كما كان من المبكرين أيضًا في تطبيق هذه المناهج على نصوص أدبية عربية، وأيضًا كان من الدؤوبين ومن القلة التي استطاعت أن تواكب أبرز مظاهر النشاط الإبداعي في العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه».

خيبات أمل.. وعزيمة قوية

وفيما يتضمن كتابه: «عين النقد: مقاطع من سيرة فكرية»، تحليلًا لعدد من خيبات الأمل التي مُني بها، في مسيرته المهنية بالجامعة، وجهده الثقافي في المجتمع، يقول إنه «لم يفعل ذلك لكي يندب حظه، أو يحمل على القدر». ويضيف، متحدثًا عن ذلك القدر الذي رافقه خلال تجربته المديدة: «أحسب أنه عادل معي إلى حد كبير؛ فقد منحني طاقة محدودة، وظروفًا مواتية ومناوئة مثل كل الناس، لكني عوضتها بعزيمة قوية لا تركن لليأس مهما كانت الصعوبات».

اقرأ أيضًا:

ابحث عن أحدث المنح الدراسية من هنا. ولمزيد من القصص، والأخبار، اشترك في نشرتنا البريدية، كما يمكنك متابعتنا عبر فيسبوك، ولينكد إن، وتويتر، وانستجرام، ويوتيوب.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى