مقالات رأي

الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل التعليم.. فرص يجب إدراكها رغم التحديات

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

منذ منتصف القرن العشرين، أعادت الاختراعات التكنولوجية تشكيل الحياة الحديثة بشكل جذري. ومع إطلاق أي تقدم تقني جديد من شأنه أن يهز المتعارف عليه محليًا وعالميًا، تتراوح ردود الفعل العامة عادةً ما بين الدعم الكامل للظواهر الجديدة والمعارضة الشديدة للتغييرات.

وهذا هو الحال مع الذكاء الاصطناعي (AI) اليوم. من الواضح أن للذكاء الاصطناعي القدرة على إعادة تشكيل مستقبل التعليم. والسؤال هو: كيف يتوجب على التربويين الاستجابة لهذه التطورات؟

تتطلب حالة الذكاء الاصطناعي في التعليم تقييمًا رصينًا واستجابة مدروسة؛ إذ تتطلب هذه الاستجابة فهمًا للأدوات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي والمتاحة عبر الإنترنت، وطبيعة المعلومات التي تتيح للأكاديميين والطلاب الوصول إليها. بالطبع، للمعلومات المتاحة عبر أدوات الدردشة العاملة بالذكاء الاصطناعي، أو «روبوتات المحادثة» والخدمات التي يمكن أن توفرها هذه الأدوات، تأثيرات إيجابية وسلبية على المستخدمين.

تأتي روبوتات الدردشة بأشكال متعددة وتتوافر على مواقع إلكترونية مختلفة. توفر تطبيقات مثل ChatGPT وChatSonic وBloom خدمات تتراوح من كتابة ردود بريد إلكتروني احترافية وحتى كتابة أوراق بحثية كاملة وإنشاء كود لمهام برمجية. وبقدر ما تثيره هذه التطبيقات من دهشة، بقدر ما دُهش الناس الذين لم يتوقعوا إتاحة مثل هذه الأدوات والخدمات للجمهور، وتنتاب المعلمين وأرباب العمل مخاوف مشتركة فيما يتعلق بقضايا مثل نزاهة العمل، والانتحال، وفقدان القدرة، ببساطة، على تقييم المرشحين للوظائف بناءً على قدراتهم الحقيقية.

التحولات في منهجية التعليم

يُظهر إدخال روبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تحولًا في محركات البحث مشابهًا لما حدث في أواخر التسعينيات مع ظهور محرك البحث جوجل. قبل ميلاد الإنترنت، كان الناس يعتمدون بشكل أساسي على المواد المطبوعة الموجودة في المكتبات، أو دور المحفوظات للحصول على المعلومات واحتياجات البحث. ومع تطور تكنولوجيا المعلومات، قام الأشخاص بتحميل المزيد من أبحاثهم ومنشوراتهم وجميع أنواع المعلومات المكتوبة على منصات الإنترنت.

«كان نجاح محرك البحث جوجل مشروطًا بشيءٍ رئيسي واحد: توافر المعلومات عبر الإنترنت. وهذا بالضبط العامل نفسه الذي سيسمح لأدوات الدردشة العاملة بالذكاء الاصطناعي بأن تصبح أكثر انتشارًا».

ساعد محرك البحث جوجل، ومحركات البحث السابقة الأشخاص على الإبحار في مستودع المعلومات الواسع والمتزايد عبر الإنترنت. ومع ذلك، في أواخر التسعينيات، لم يتطلب العمل اليومي في جميع المدارس وأماكن العمل، الإنترنت، وبالتالي لم يُثر جوجل نفس مستوى الخوف الذي يسببه الذكاء الاصطناعي اليوم.

ومع ذلك، فقد غيّرت الثورة الرقمية التعليم والبحث بالكامل، من خلال توافر معلومات مكتوبة، بالإضافة إلى مقاطع فيديو، ومقالات إخبارية، وخرائط والمزيد على الإنترنت. وبهذا أصبح محرك البحث جوجل وسيلة أساسية للأشخاص للوصول إلى هذه المعلومات. علاوة على ذلك، لا تقتصر خدمات جوجل على لغة واحدة أو أكثر اللغات استخدامًا في العالم. على العكس من ذلك، فهو يسمح للأشخاص من جميع أنحاء العالم بالبحث عبر الإنترنت عن أي معلومات يرغبون فيها، وتغطي خدماته جميع أنواع الموضوعات. وبذلك لم يعودوا بحاجة إلى زيارة المكتبات للحصول على المعلومات.

ومع ذلك، ارتبط نجاح وانتشار استخدام محرك البحث جوجل بشيء رئيسي واحد، وهو توفر المعلومات عبر الإنترنت، وهذا بالضبط العامل نفسه الذي سيسمح لأدوات الذكاء الاصطناعي للمحادثة بأن تصبح أكثر انتشارًا.

اليوم، يتم استخدام الإنترنت ومحركات البحث في جميع أنواع الوظائف بشكل يومي. وقد قدّمت المدارس التي تُعلِّم طلابًا لا تتجاوز أعمارهم 5 أو 6 سنوات هذه الأدوات للطلاب لتوسيع معارفهم البحثية، وإمكانية وصولهم إلى المعلومات ككل. لذلك، هل من المحتمل أن تحقق مواقع الذكاء الاصطناعي نفس النجاح والاعتماد في السنوات القادمة؟ سيكون الجواب بالإيجاب بلا مفر.

الجيد والسيىء والواقع

شهدت السنوات القليلة الماضية تصاعد الجدل بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في المزيد من مجالات الحياة البشرية. وتتباين وجهات النظر ما بين الدعم القوي والمعارضة التامة للفكرة.

في تقرير صدر عام 2018 بعنوان «الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشر»، سأل مركز «بيو» للأبحاث، الخبراء في عددٍ من المجالات، بما في ذلك التعليم، عمّا إذا كان الذكاء الاصطناعي سيجعل الناس أفضل حالًا خلال العقد المقبل. أظهرت النتائج إجماع المعلمين الذين شاركوا في استطلاع المركز، ودعمهم لقدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث تحول هائل في التعليم.

أشار العديد من خبراء التعليم إلى أن الذكاء الاصطناعي سيسمح بتخصيص أكبر للتعليم والتدريب لمطابقة احتياجات نطاق أوسع من الأفراد، فضلًا عن تنويع مناهج وموارد المعرفة. كما أيّد آخرون استخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تقديم التعليم إلى «المناطق النائية والمحرومة من الخدمات»، بالتزامن مع شعورهم بالقلق من إمكانية «تركز السيطرة على الأمر في أيدي قلة ممن يسعون إلى استغلال الناس والطبيعة والتكنولوجيا لتحقيق مكاسبهم الخاصة». (لمزيد من المعلومات حول الآراء التي عبر عنها المعلمون في تقرير «بيو»، راجع مقال ديان شافهاوزر، المعنون: خبراء يناقشون مزايا الذكاء الاصطناعي في التعليم، المنشور في موقع كامبوس تيكنولوجي Campus Technology).

وبالمثل، أشارت منظمة «اليونسكو» إلى إمكانية أن يكون الذكاء الاصطناعي في التعليم بمثابة أداة لمعالجة عدم المساواة في الوصول إلى المعرفة والبحث في جميع أنحاء العالم. في الوقت نفسه، تقر المنظمة أيضًا بالمخاطر والتحديات المحتملة. كما تدعو «اليونسكو» إلى اعتماد «نهج يرتكز على الإنسان في التعامل مع الذكاء الاصطناعي» بما يضمن ألا يوسع الذكاء الاصطناعي الفجوات التكنولوجية الحالية داخل البلدان وفيما بينها.

«رحب خبراء التعليم الذين استجوبهم مركز بيو للأبحاث بتطورات الذكاء الاصطناعي في قطاعهم، لقدرته على تخصيص التعليم والتدريب لتلبية الاحتياجات الفردية، فضلًا عن المساعدة في توفير التعليم للمناطق النائية والمحرومة».

وبينما يدعو العديد من الخبراء إلى التنفيذ السريع للذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم، لا يزال العديد من الخبراء الآخرين في مرحلة التكهن حول آثاره. ونظرًا لأن روبوتات الدردشة العاملة بالذكاء الاصطناعي جديدة نسبيًا ولا تزال قيد التطوير، يقول بعض المعلمين إن المعلومات التي تولدها هذه الأدوات تفتقر إلى الجودة. كما ينتابهم القلق من احتمالية أن يصبح الطلاب معتمدين على تطبيقات الذكاء الاصطناعي دون تعلم التعبير عن أفكارهم الخاصة، والأسوأ من ذلك، إمكانية استخدام التكنولوجيا للغش. وعلى الرغم من استمرار هذه المخاوف، أصبح دمج الذكاء الاصطناعي في مستقبل التعليم أمرًا لا مفر منه.

الاستجابات الأولى مقابل التأثير طويل المدى

لماذا يشكل استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي تهديدًا أو مصدر خوف للمؤسسات؟ من بين الأسباب أن روبوتات الدردشة العاملة بالذكاء الاصطناعي، وبخلاف محرك البحث جوجل ومحركات البحث الأخرى، لا تزود المستخدمين بمعلومات يمكنهم تقييمها واستخدامها، بل تقوم هذه الأدوات بعملية تفكير يشبه ما يقوم به الإنسان، وتجمع المعلومات لمستخدميها بناءً على طلبهم.

خيّم الذعر على الاستجابات الأكاديمية الأولى لروبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، حيث أعرب المعلمون وأرباب العمل عن صدمتهم عند اكتشاف ما يمكن لتلك المواقع القيام به. ومع ذلك، يجب على المرء أن يفهم طبيعة هذه المخاوف بالضبط ليكون قادرًا على تحليل مستقبل الذكاء الاصطناعي في التعليم.

تزعم تسعون بالمئة من المقالات المنشورة على الإنترنت والتي تتناول موضوع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGpt أو ChatSonic أو Bloom أن الأبحاث التي تنتجها هذه التطبيقات متواضعة أو غير شاملة. علاوة على ذلك، يقول بعض النقاد إن لأدوات الذكاء الاصطناعي القدرة على نزع مهارات البشر، سواء كانوا طلابًا في المدارس والجامعات، أو موظفين يعتمدون بشكل كبير على هذه التطبيقات في اتصالاتهم اليومية.

وبينما تصحّ هذه الادعاءات كاستجابة أولى، يجب على المرء أن يوازنها بمقارنة الجانبين، ونقصد الواقع على الأرض والآثار الإيجابية التي يمكن أن تحدثها أدوات الذكاء الاصطناعي على الناس.

هل سيخلق الذكاء الاصطناعي ذكاءً جديدًا؟

في الحقيقة، ليس بإمكان روبوتات الدردشة العاملة بالذكاء الاصطناعي إنشاء معلومات. على العكس من ذلك، تقوم هذه الأدوات بتحديد وتنظيم المعلومات بناءً على ما هو متاح على الإنترنت. لذلك، ستكون جودة العمل دائمًا مرتبطة بما يمكن أن تجده أدوات الذكاء الاصطناعي، ولن يكون لديها القدرة على استبدال حجة، أو إنشاء نظرية جديدة، أو استخدام الموارد الأولية.

تسلط هذه القيود الضوء على تحديين يواجهان استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لجمع الأبحاث المنشورة بمختلف اللغات والتخصصات. لن يكون البحث الذي يتم إنتاجه باللغات التي لا تحتوي على بيانات قوية متاحة عبر الإنترنت، أو في التخصصات التي تتطلب العمل الميداني والتجارب، متاحًا مثل البحث في المجالات الأكثر شيوعًا.

«يجب على الشركات والمؤسسات التعليمية دمج هذه الأدوات في مهامها اليومية، والعمل على تكييف أدوات الذكاء الاصطناعي مع احتياجاتها وفوائدها، وتعظيم مخرجاتها».

ومع ذلك، تشير التقارير الإخبارية الأخيرة إلى أن استخدام الطلاب لأدوات الذكاء الاصطناعي آخذ في الازدياد. وذكرت صحيفة «الغارديان» أن محاضِرة في إحدى الجامعات الأسترالية اكتشفت مساعدة روبوتات الدردشة في 20% من مجموعة الاختبارات التي قامت بتصحيحها. كما أفادت «FE News» أن تحليل اتجاهات جوجل وجد أن عمليات البحث عن «كتابة المقالات بالذكاء الاصطناعي» ارتفعت بما يزيد عن 2,000 بالمئة في كانون الأول/ ديسمبر، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة.

ومع ذلك، فإن مدى استخدام الطلاب لبرامج الدردشة الآلية محدود بسبب نقص الأبحاث القائمة على اللغة والجغرافيا والتخصصات. وعليه، لن تواجه الجامعات التي تستخدم في التعليم لغاتٍ غير شائعة، أو التي تفتقر إلى مواد بحثية عبر الإنترنت، بما في ذلك العديد من الجامعات العربية، نفس القدر من القلق مقارنة بتلك التي تجري تعليمها باللغة الإنجليزية. علاوة على ذلك، لن تواجه التخصصات الجامعية التي تتطلب بحثًا ميدانيًا، وبحوث بيانات أولية، نفس التحديات مقارنة بالتخصصات الأكثر نظرية، أو التي تستخدم بيانات بحثية ثانوية.

الاستفادة من الفرص الجديدة

في الختام، من المتوقع أن يستمر إدخال التطورات التكنولوجية في المجال العام، وتحديدًا في قطاع التعليم، في إثارة القلق. ومع ذلك، يمكن أن يمثل ذلك فرصة لقطاع التعليم لتحديث منهجياته التعليمية. تحتاج المدارس والجامعات إلى استيعاب اكتساب واسع وسريع للمعلومات الرقمية وتدريب طلابها على تحويل هذه المعلومات إلى معرفة.

يجب ألا يتأثر توليد المعرفة بالوصول السريع إلى البيانات عبر الإنترنت. على العكس من ذلك، يجب أن ينتهز قطاع التعليم هذا كفرصة لمساعدة أولئك الذين يحتاجون إلى دعم إضافي والسماح لهم باستخدام هذه البيانات.

وإن لم يكن مستحيلًا، فإن تقييد الوصول إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد يكون أمرًا بالغ الصعوبة. ومع الأجيال القادمة، سيكون استخدام المزيد من التطورات التكنولوجية أمرًا لا مفر منه. لذلك، يجب على الشركات والمؤسسات التعليمية دمج هذه الأدوات في مهامها اليومية، والعمل على تكييف أدوات الذكاء الاصطناعي مع احتياجاتها وفوائدها، وتعظيم مخرجاتها.

*محجوب الزويري أستاذ التاريخ المعاصر والسياسة في الخليج ومدير مركز دراسات الخليج بجامعة قطر.

فرح القواسمي، مساعدة باحث في مركز دراسات الخليج، جامعة قطر.

اقرأ أيضًا:

  ابحث عن أحدث المنح الدراسية من هنا. ولمزيد من القصص، والأخبار، اشترك في نشرتنا البريدية، كما يمكنك متابعتنا عبر فيسبوك، ولينكد إن، وتويتر، وانستجرام، ويوتيوب.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى